الخوف الذي يسيطر على الناس في شوارع المدن الغربية أصبح الناخب الأقوى، وهو الذي سيكون لصوته التأثير الأكبر في صناديق الاقتراع. وسواء كان هذا الخوف من مجرم قاتل، يرتكب مذبحته منفرداً بين جموع المتسوقين، كما في ميونيخ بالأمس، أو من شبكة مجرمة تتعاون على تنفيذ الجريمة، كما حصل في باريس وبروكسيل، وكما أخذ يظهر من التحقيقات في مذبحة نيس قبل أسبوع، فإن خوف المواطن الأوروبي من الراكب الأسمر البشرة الجالس إلى جانبه في القطار، أو من الملتحي الداخل إلى مقهى الحيّ، أصبح يحرك اتجاهات الرأي العام نحو المطالبة بمزيد من الانعزال، وبإحكام الأقفال على مداخل الأبواب والنوافذ. في مناخ كهذا، يصبح العقل مشلولاً، ولا يعود الاحتكام إلى الحوار علاجاً مجدياً. الغرائز تتحكم بالسلوك وبالقرار، وهي التي تدفع قادة يعرفون كيف يمكن استغلال هذه الغرائز إلى الصفوف الأولى. ومهما حاول المسؤولون الأمنيون التخفيف من وقع الصدمة على مواطنيهم، مرة بالقول أن المجرم مختل عقلياً، أو أنه يتصرف منفرداً من دون توجيهات أو فتاوى «داعشية»، فإن انعدام الثقة بالإجراءات الأمنية والحذر من كل شكل غريب أو لهجة غريبة، أصبحا هما المحركين الحقيقيين لردود فعل المواطن الغربي. في مناخ كهذا، لا يعود غريباً أن يحظى رجل مثل دونالد ترامب، لا يملك من صفات الزعامة سوى القدرة على إثارة الغرائز العنصرية، بما حظي به من تصفيق وهتاف في مؤتمر الحزب الجمهوري، ولا أن يصبح بوريس جونسون وزيراً للخارجية في بريطانيا، على خلفية «مآثره» في إثارة الخوف في نفوس البريطانيين (الإنكليز خصوصاً) من هجوم المقبلين من دول الاتحاد الأوروبي أو اللاجئين من حروب الشرق الأوسط على وظائفهم ومدارس أولادهم وأسرّة مستشفياتهم. كما لن يكون مستغرباً أن نرى في العام المقبل مارين لوبن زعيمة «الجبهة الوطنية» في فرنسا تتأهل للدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية، وتدخل ربما إلى قصر الإليزيه كأول رئيسة للجمهورية الفرنسية. او ان نرى انغيلا مركل تخسر الانتخابات بعد ان وجهت الدعوة لاستضافة مليون لاجئ في المانيا. «أميركا أولاً»، كان شعار دونالد ترامب في المؤتمر الذي كرّسه مرشح الجمهوريين للرئاسة في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. أي الدعوة إلى مزيد من العزلة. ومع هذا الشعار كان الوعد بإعادة الأمن إلى الشوارع الأميركية: «الجريمة والعنف اللذان يهددان بلدنا سينتهيان قريباً، وأعني قريباً جداً. مع 20 كانون الثاني (يناير) 2017 سيستتب الأمن من جديد». تحت شعار الانعزال، والوعد بتحقيق الأمن، خاض قادة حملة «البريكسيت» معركتهم، وكسبوها في بريطانيا، ومثلما توقعت القلّة أن تنجح مجموعة السياسيين الذين خاضوا هذه الحملة وباعوا الناس أوهاماً ووعوداً فارغة، فإننا قد نفيق صباح 9 تشرين الثاني المقبل، لنجد أن دونالد ترامب هو في طريقه إلى البيت الأبيض... وكل ذلك بفضل الناخب الأكبر... الخوف. هذا الاندفاع الغربي وراء قادة شعبويين مثل هؤلاء ينعكس سلباً على الصورة الليبرالية التي تريد المجتمعات الغربية أن تقدمها عن نفسها. أمام موجة الخوف المنتشرة، يفقد العقلاء كل حيلة ومنطق في الدفاع عن مواقفهم. ولا يبقى في الساحة إلا المتطرفون من هنا وهناك الذين يخدم بعضهم بعضاً. من جهة، هناك من يغذّون هذا الخوف، سواء كانوا «داعشيين» أو «ذئاباً منفردة»، أو حاقدين موتورين، ومن جهة أخرى، هناك السياسيون الغربيون الذين يسعون إلى الإفادة من حالة القلق الأمني لدعم مواقعهم، ولو كان ذلك على حساب القيم التي كانت المجتمعات الغربية رائدة فيها. أما الضحية الأخرى فستكون مجموعات المهاجرين الذين قدموا من قلاقل المجتمعات العربية والإسلامية ومصائبها ليجدوا في دول الغرب فرصة لتحسين ظروف حياتهم ومستقبل أبنائهم. مع موجة الخوف التي تتسع واستفحال الغرائز التي تفقد حدودها، يصبح مصير هؤلاء في مهب الريح عندما يبدأ السياسيون الغربيون تطبيق شعار «بلادي أولاً».