(تبرعوا ولو بريال لعتق رقبة أخيكم، من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ساهموا في عودة ابنكم إلى حضن أمه، فأمه مريضة حزينة تبكي طوال الليل، وأبوه مكلوم، وأخته الصغيرة تريده، لا تحرموا أنفسكم الأجر والمثوبة). هكذا تضج مواقع الإعلام الاجتماعي بكل أنواعها بحملات تستدر العطف والمساعدة، ويقيمون الندوات والخطب بعد استئجار القاعات بمبالغ ضخمة غير زهيدة، يتبارى الناس فيها بالكلام والقصائد والإشادات والمواعظ، وهكذا تنتهي حملة لتبدأ حملة أخرى، لجمع مبلغ أكبر، مزادات دم شبه يومية، لجمع الأموال الكبيرة والطائلة، المؤلم أننا نسمع عن أرقاماً مخيفة يشترطها أهل القتيل أولياء الدم للعفو عن القاتل فسمعنا عن 20 مليون ريال، و30 مليون ريال و35 مليون ريال و50 مليون ريال، وربما أكثر، أن قبول الدية أمر شرعي متاح لولي الدم كأحد البدائل في قضايا القتل، وبه تحل كثير من المشكلات والقضايا، وهو تخفيف من الله سبحانه على أهل القتيل وتطييب لخاطرهم، وفيه تخفيف أيضاً على القاتل من القصاص مع كونه فيه تعنيف وزجر للقاتل وأهله وردع للمجتمع ككل، فيحقق الغاية والحكمة العظيمة من الحدود الإسلامية التي جعلت لصيانة المجتمع ابتداء، وليس في قلة مبلغ الدية أو كثرته تعويضاً عن الروح الإنسانية التي أزهقت، ولكن المشكلة تكمن في المغالاة فيها إلى حد لا يطيقه كثير من الناس، مما يدفع كثير منهم للاستلاف والاستدانة ولو على حساب أسرته ونفسه، أن هذه الحملات لو وجهت للفقراء والمحتاجين والمعسرين من القبيلة لكن أكثر فائدة وأعم نفعاً، واستدرار عطف الناس لمساعدة هؤلاء أفضل مائة مرة من استدرار العواطف من أجل قاتل مستهتر بالدم معتمد على وجود هذه الرخصة، وربما يعود مرة أخرى ثم يكرر نفس فعلته الشنيعة مطمئناً أن أهل الخير سوف يتبرعون مرة ثانية وثالثة لإنقاذ رقبته، فهل حُقق مراد الشرع الحنيف حينئذ؟.. وفي مثل هذه الحالات هل أعان أهل الخير بعملهم هذا على الحق أم على الباطل؟.. يعتمد القائمون على الحملات على تحريك المشاعر من جانب واحد فقط، فيكثرون من الحديث عن القاتل في لحظة انتظار القصاص وهي اللحظة التي تستجلب الشفقة والرحمة به، ولا يذكرون أبداً القتيل ولا لأمه المكلومة ولا لأبيه الحزين ولا لزوجته التي ترملت ولا لأطفاله الذين يُتموا، فهذا تجنيب متعمد ومجافٍ للحقيقة، وهذا شأن كل عمل بشري وكل نظرة بشرية سطحية قاصرة تنظر فقط لزاوية واحدة من زوايا الحدث، وإذا كانت الدية أحد مخارج العفو عن القتيل، فكيف يشترط أولياء الدم هذه المبالغ الباهظة المطلوبة؟، وكيف تقام الحملات بهذا الشكل المجنون والتي ربما تعتبر نوعاً من الوجاهة الاجتماعية والفزعة والحمة؟.. إن الدور الحقيقي والأول في إيقاف هذه الظاهرة قبل استفحالها بالكلية هو دور العلماء الناصحين المؤثرين في عدم المساهمة في تبني مثل هذه الدعوات والحملات لان الناس يسيرون خلفهم وينتظرون كلمتهم، كما يجب عليهم القيام بحملات توعوية عن خطورة هذا المسلك الذي يباعد بين الناس وبين روح الأحكام الشرعية التي قامت لصالح المجتمع، ينبغي أن نناشد المؤسسات التشريعية أن تراجع تلك القضية مراجعة لكافة أسبابها وأثارها لمحاولة السيطرة على هذه الظاهرة بتقنين حد أقصى لا يزيد الناس عنه لمن يريد أن يقبل الدية في قتيله حتى لا يصير الأمر ألعوبة في أيدي أهواء الناس، إن الباحث عن وجوه الخير سوف يجدها كثيرة جداً ومتنوعة، فكما أن جمع هذا المبلغ الضخم لإنقاذ حياة فرد واحد هو بالفعل باب من أبواب الخير وفيه تفريج لكربة مؤمن، في المقابل توجد أبواب خير كثيرة يمكن أن تستوعب هذه التبرعات وتستنزفها هذه الحملات، فيمكن لمثل هذا المبلغ الضخم أن يحيي مئات من الأسر المسلمة وينقذها من مشارف الهلاك في كثير من المناطق القريبة والبعيدة، وخاصة تلك الأماكن المنكوبة والتي تحتاج للأعمال الإغاثية مثل مخيمات المشردين حيث تنام فيها الأسر المسلمة عارية ليقضي عليهم البرد والجوع والمرض ولا يجدون ما يسد جوعهم أو ما يستر عوراته. والله من وراء القصد،،،