ليست هذه المرة الأولى التي أزور فيها ولاية نيومكسيكو الأميركية فقد زرت عاصمة الولاية سانتافيه قبل عامين وشعرت بالألفة وأنا أرى المباني والبيوت المبنية من الأدوبي أو الطوب الطيني، فقد نقل المستعمر الأسباني هذا الاسم العربي معه عند استيطانه القارة الأميركية في مطلع القرن السادس عشر الميلادي. لابد أن أقول إن هذه المدينة تأسرني ببساطتها ووداعتها وتحيرني لأنها تجعلني أسأل نفسي وبإصرار لماذا لم نستطع أن نحافظ على بلداتنا القديمة ونجعلها حية مثل سانتافيه، ولماذا تخلينا عن مادة الطين وتقنيات بنائها؟ عندما وصلنا المدينة تجددت الذكريات القديمة لكني كنت مشغولا ذهنيا بما رأيته في موقع «شاكو» وكنت أسأل نفسي: ما سر المستوطنة نصف الدائرية وسر الحفر الدائرية المغطاة ببساطة أنها تثير لدي الحنين لأمكنة في الذاكرة لا أستطيع تحديدها عادة وأشعر فيها براحة، لكنني هذه المرة أتيت في زيارة خاصة للصحراء النيومكسيكية وبالطبع كان وقوفي الرئيس في سانتافيه. بدأت رحلتي من العاصمة واشنطن إلى بلدة صغيرة في جنوب ولاية كولورادو اسمها دورانجو مرورا بمدينة دنفر ثم أخذنا الباص إلى مدينة فارمنجتون شمال نيومكسيكو والهدف هو الوصول إلى موقع تراث عالمي في شاكو كانيون في صباح اليوم التالي وهذه البلدة هي أقرب منطقة يمكن أن نسكن فيها قبل انطلاقنا في رحلة شاقة للوصول إلى المنطقة التي قطنتها قبائل من السكان الأصليين النافاهو والبابلو قبل حوالي 1200 عام. الطريق إلى متنزه شاكو الوطني صعب ويمر بأراض تملكها بعض القبائل لذلك لا يمكن تطويرها إلا بموافقة هذه القبائل. المتنزه تشرف عليه خدمات المتنزهات الوطنية التابعة لوزارة الداخلية وهي مؤسسة عملاقة تشرف على جميع المتنزهات الوطنية بكل محتوياتها الثقافية في الولايات المتحدة الأميركية. المكان بعيد عن أي موقع مأهول فقد أمضينا حوالي الساعتين في الطريق وعندما وصلنا لم نجد عددا كبيرا من الزوار ومع ذلك يزوره حوالي 50 ألفا كل عام، ويوجد به مركز للزوار ومحل بيع هدايا يبيع كتبا. عندما وصلت للموقع لم أشعر بحماس كبير وقلت لمن معي كل هذه المشقة من أجل أن نرى تكوينات جبلية لدينا مثلها الكثير في بلادنا، وقلت مازحا كأنني في صحراء شمال الرياض وكأني أرى جزءا من جبل طويق، كما أنه لفت نظري تكوين جبلي ضلع منفرد وسط الصحراء فقلت: أنا على يقين أنني رأيت هذا المشهد في أحد أفلام الكابوي. عندما اجتمعنا مع فريق المتنزه وبدأنا برنامج الزيارة اكتشفت أنه يوجد مستوطنات بشرية للسكان الأصليين أهمها يدعى بابلو بينيتو بدأ البناء فيها عام 830م وهجرها سكانها عام 1250م أي قبل وصول الأسبان بـ 300 عام، وهي على شكل نصف دائرة يحيط بها شريط من الغرف المبنية على شكل ثلاثة صفوف الأول منها وهو الخارجي بارتفاع ثلاثة طوابق والأوسط بطابقين والداخلي المفتوح على الساحة طابق واح،د وهي مغلقة تماما وفي المنتصف الساحة الرئيسية يوجد بها غرف دائرية محفورة في الأرض محمية بجدار ساند من الأحجار، يتم فيها ممارسة الطقوس الخاصة بأفراد القبيلة. الغرف والحفر الدائرية مسقوفة بسقف خشبي بشكل أفقي ويمكن الوصول للغرف بسلالم خشبية من الأعلى لأنه لا يوجد أبواب لها والنزول للحفر بسلالم كذلك، لكني لاحظت تقنيات الحجر العالية التي وصل لها البناؤون حتى إنني شككت أن هناك تأثيرا للعمارة الأندلسية نقلها الأسبان معهم لكني تأكدت أن هذه التقنية محلية وطورها عفويا من سكن هذا المكان. اعتقدت أن هذا الموقع فريد من نوعه وبقيت لدي أسئلة كثيرة لم أحصل على اجابة عنها ونحن نغادر المكان قبل حلول المساء إلى سانتافيه فالطريق طويلة ومن الأفضل ان نقطع الجزء الأصعب من الطريق في وضح النهار. عندما وصلنا المدينة تجددت الذكريات القديمة لكني كنت مشغولا ذهنيا بما رأيته في موقع شاكو وكنت أسأل نفسي: ما سر المستوطنة نصف الدائرية وسر الحفر الدائرية المغطاة، فهل ذاك لأن السكان يمارسون رقصاتهم الطقوسية على شكل حلقات دائرية، ولماذا هناك عدد كبير من الحفر؟ كنت مغرما بكيفية نشوء هذه الحضارة البكر التي يبدو أنها تشكلت في عصر متأخر لكنها تكشف كيف استطاع الانسان أن يبني حضارته في عصور ما قبل التاريخ. التساؤل الآخر الذي كان يشغلني هو: طالما أن الانسان وصل إلى القارة الأميركية منذ حوالي 9000 سنة فلماذا لم يستطع أن يبني حضارة تشبه باقي الحضارات في القارات الأخرى؟ ولماذا ظل على بدائيته ولم يطور لغات مكتوبة إلا في أماكن محدودة (المكسيك) وبشكل بدائي؟ بالنسبة لي لم أجد أجابة شافية لهذه الأسئلة لكنها فتحت شهيتي للتعرف على ثقافة السكان الأصليين حتى ولو جزئيا خصوصا في البيئة الصحراوية المشابهة لبيئة الجزيرة العربية. كما أنني ربطت بين عدم تطور الحضارة في هذه البقعة من العالم وبين عدم وجود الحيوانات خصوصا الخيول والماشية إذا إن القارة خالية من الحيوانات الرئيسية ماعدا الديوك الرومية والكلاب وبالتأكيد هذا أبطأ التطور الحضاري لمن سكن القارة. اليوم التالي أمضيته في المدينة، وبعده بيوم قمت بزيارة لموقع آخر اسمه باندلير اكتشفه المؤرخ أدولف باندلير قبل 125 عاما وسمي على اسمه، وأصبح ضمن المتنزهات الوطنية وهو عبارة عن سلسلة جبال رسوبية يوجد بها كهوف استوطنها السكان الأصليون قبل 800 عام، أي في نفس الفترة التي هجر سكان شاكو موقعهم. ومرة أخرى كنت اعتقد أن الموقع عبارة عن كهوف فقط لكني فوجئت بوجود مستوطنة بشرية تشبه إلى حد كبير ما رأيته في بابلو بنيتو بمحيطها نصف الدائري وساحتها التي يوجد فيها حفر الطقوس الدائرية، وتقع في أسفل التكوين الصخري الرسوبي مثل موقع شاكو وكأن الجبل يحميها ويوفر لها الظل. في كلا الموقعين توجد رسومات صخرية لكن في موقع باندلير يوجد غرف خارج المستوطنة مرتفعة وملتصقة بالتكوين الصخري وممتدة بشكل شريطي، وتظهر آثار الأخشاب (جذوع الأشجار) المستخدمة في الأسقف محفورة وغائرة في جدار الجبل وبارتفاع طابقين، كما أن الغرف وحتى بعض الكهوف مغطاة بمادة تشبه الأستاكو أو الجبس التزييني وملون بالبني والأسود وهي الألوان الشائعة أو التي تم تطويرها في هذه الحضارة. في هذا الموقع استوقفني أمران، الأول هو أن تقنية الأحجار تختلف عن الموقع السابق فهنا الأحجار كبيرة الحجم بينما في موقع شاكو صغيرة ومقطوعة بعناية ويوجد بينها أحجار انتقالية أقل حجما لكن في كلا الموقعين تم استخدام الملاط الاسمنتي الطبيعي لربط الأحجار. أما الأمر الثاني فقد وجدت لوحة مرسومة في جدار الجيل في أحد الغرف تم المحافظة عليها تمثل تشريفات على شكل مدرجات ذات 5 أو 3 درجات وهي تشبه إلى حد كبير الدرجات الموجودة في أعلى واجهات قبور البتراء ومدائن صالح والتي تشير في الثقافة النبطية إلى الصعود للسماء. بالطبع لا يوجد علاقة بين الانباط ومستوطنة باندلير فقد كانت معزولة عن العالم لكن التوافق بين نحت الكهوف في الجبال الرسوبية ووجود الرمز البصري المتقارب جعلني أفكر في كيف أن الانسان يمكن أن يصل إلى نفس النتائج الحضارية والثقافية في تعامله مع الطبيعة والبيئة من حوله فقد بنى الانباط حضارتهم قبل 2200 سنة وأكثر وهذه المستوطنة بنيت قبل 800 عام في ظروف معزولة ويبدو أنها توصلت إلى نفس النتيجة التي توصل إليها الأنباط. قلت لمن معي إن تفسيري لهذه الظاهرة هي أن للمواد سلوكا هو الذي ينتج الاشكال التي نراها حولنا، والانسان اكتشف هذا السلوك من خلال التجربة وطوّعه لبناء حضارته. (وللحديث بقية)