×
محافظة المنطقة الشرقية

بيريرا سبب إصابتي

صورة الخبر

يهيمن سؤال رئيس الآن على أغلب التحليلات والنقاشات بين الاقتصاديين ليس فقط في بريطانيا، وإنما في عموم القارة الأوروبية. السؤال باختصار هل ستعاني أوروبا من الأوضاع الاقتصادية المضطربة في الاقتصادات الناشئة حاليا؟ وبالنسبة لاقتصاديين آخرين فالسؤال يتعلق بمدى معاناة أوروبا من الهزة الاقتصادية الراهنة في البلدان الناشئة، فوفقاً لقناعة هؤلاء فإن تأثر القارة الأوروبية واقع لا محالة. خلال العقد الماضي تقريبا برهنت الاقتصاديات الناشئة على أنها الحصان الأسود في السباق الاقتصادي العالمي، ومع تعثر أمريكا وبلدان الاتحاد الأوروبي اقتصاديا منذ عام 2008، أصبح الجواد الصيني والروسي والهندي والبرازيلي وغيرهم هم الأكثر سرعة في المضمار، وأضحى رهان المستثمرين العالمين ينصب عليهم. وكثف المستثمرون الدوليون والمصارف العالمية استثماراتهم في تلك البلدان لتتجاوز المليارات إلى تخوم التريليونات، ويتفاخر قادة الصين وروسيا والهند .. على غيرهم من قادة أوروبا الغربية بعظمة نموذجهم الاقتصادي وفاعليته. لكن ودون سابق إنذار بدأ الجواد الأسود في التعثر، وأصبح يلهث خلال السباق، وظهرت أرقام اقتصادية من الاقتصاديات الناشئة لم تكن الأسواق تسمعها من قبل، فمعدل النمو الصيني يتراجع على الرغم من أنه ظل مرتفعا بكل المعايير مقارنة تحديدا بالاقتصاد الأمريكي أو الأوروبي أو الياباني، لكنه في نهاية المطاف تراجع ليصل إلى 8 في المائة وهو الأدنى خلال ثلاث سنوات. وأعلنت الهند أحد اللاعبين المميزين في الاقتصاد العالمي أن العام الماضي هو أسوأ أداء اقتصادي لها منذ 2004، وأما البرازيل وشيلي وإندونيسيا وجنوب إفريقيا وتركيا فجميعها لم يختلف كثيرا عما حدث لبكين ونيودلهي، والاستثناء كان روسيا نظراً لاعتمادها على تصدير الغاز، ورغم ذلك فإن الشكوك لا تزال تحيط بها وبقدرتها على مواصلة الجري في مضمار السباق الاقتصادي. ولا يتعلق التساؤل بالوضع الراهن بقدر اقتناع الجميع بأن المستقبل يخفي الأسوأ لتلك الاقتصادات الناشئة، وحول هذا الأمر يعلق لـ "الاقتصادية" كلاويد كوبين الاستشاري في مصرف إتش إس بي سي، بقوله لا أستطيع أن أقول إن هناك أزمة تلوح في الأفق، ولكن القلق الشديد له ما يبرره، فالبلدان الناشئة تواجه نوعين من المخاطر، الأول تباطؤ النمو والثاني احتمال تآكل النمو على المدى الطويل، وأعتقد أن المشكلة الأولى يجب أن يكون التعامل معها أسهل، أما الثانية فلا. وأضاف أن انعكاسات تلك المشكلة على الاقتصاد العالمي وتحديدا الأوروبي لربما تمثل طوق النجاة للاقتصادات الناشئة، فأوروبا مرتبطة بتلك البلدان أكثر من اليابان وأمريكا، وإذا غرقت فإنها قد تأخذ الأوروبيين معها، لكن هل ستقبل واشنطن بذلك، هذا هو السؤال. وتعرضت البورصات الأوروبية خلال الأيام الماضية لانخفاض يعد الأول منذ آب (أغسطس) الماضي، وأظهرت البيانات تراجعا غير متوقع في معدل التضخم في منطقة اليورو، ما أحيا المخاوف من انزلاق المنطقة للانكماش، وهي مؤشرات تدل جميعها أن العاصفة التي ضربت الاقتصادات الناشئة في طريقها إلى أوروبا. وإذ تشير البيانات المتاحة إلى أن الصناديق الأمريكية استثمرت 450 مليون دولار خلال الأسبوع الأخير من كانون الثاني (يناير) الماضي في الأسهم الأوروبية، ليصل بذلك صافي التدفقات الخارجية الأمريكية 3 تريليون دولار خلال الفترة الممتدة من (يناير2013-2014) فإنه وفي ذات الفترة تقريبا قام المستثمرون الأمريكيون بسحب ما يعادل 2.6 مليار من صناديق الأسهم في الاقتصاديات الناشئة. وتؤكد الدكتورة ليزلي أدلير أستاذة الاقتصاد الدولي في جامعة كارديف لـ "الاقتصادية"، أن هناك عدداً من المشكلات اجتمعت في آن واحد وهو ما سبب الوضع الراهن، أولا هناك مشكلة عملات الاقتصادات الناشئة، وتركيا نموذج صارخ لذلك فتراجع الاستثمارات الدولية خلال النصف الثاني من العام الماضي أدى إلى تراجع قيمة الليرة التركية في مواجهة الدولار واليورو، ومع تواصل التراجع لم يكن أمام البنك المركزي سوى رفع سعر الفائدة، والآن تركيا التي كانت تعد اقتصادا ينمو بمعدلات مرتفعة تعاني تراجع قيمة عملتها وارتفاع أسعار الفائدة في الوقت نفسه. ولا شك أن غياب الاستقرار السياسي يعمق الأزمة، وتستدرك أدلير، أن هذا الوضع يوجد مثيل له بدرجات مختلفة في الهند وجنوب إفريقيا وروسيا والبرازيل والأرجنتين وإندونيسيا، فمعدل سعر الفائدة في أمريكا وأوروبا واليابان يقترب من صفر، أما في تلك البلدان فإنه يبلغ نحو 6 في المائة، ولا تستطيع تلك البلدان اتباع سياسة تحفيز مالي مثل واشنطن فهذا ترف اقتصادي كبير لا يستطيع أن يتحملوه، ويزيد من حدة المشكلة تراجع سياسة التحفيز الأمريكي التي كانت تمد الاقتصاد العالمي بسيولة مالية ونقود رخيصة الثمن للإقراض. وبعيدا عن التصريحات الدبلوماسية والحديث المثالي عن التعاون الاقتصادي الدولي فإن محافظ البنك المركزي الهندي وضع النقاط على الحروف متهما الولايات المتحدة والبلدان الصناعية بتبني سياسات اقتصادية "أنانية" مع تحسن الوضع الاقتصادي لديهم، مذكرا إياهم بأن الاقتصاديات الناشئة التي تعاني الآن هي من ساعدهم خلال الأزمة العالمية في 2008، ولا يجب أن يكون هذا هو جزاؤها. ويعتقد البعض أن حكومات الاقتصاديات الناشئة تبالغ في حجم المخاطر التي تتعرض لها، فوفقا للمعايير الدولية فإن الأسواق الناشئة تعمل بشكل جيد حتى الآن، وصندوق النقد الدولي يعتقد أن الاقتصادات النامية سيبلغ معدل نموها هذا العام 5.6 في المائة، وأن ما يحدث لها الآن طبيعي وتتحمل جزءا من مسؤوليته. وعندما اندلعت الأزمة المالية في 2008 فعلت تلك الاقتصاديات طاقتها كافة، فالصين أطلقت حزمات تحفيزية ضخمة، والبرازيل أغدقت في سياستها الائتمانية، وخفضت العديد من تلك الاقتصاديات أسعار الفائدة وشجعت الاستثمارات الدولية والمصارف الأوروبية على العمل على أراضيها وفي أسواقها، لكنهم منذ عام 2010 عملوا على تغيير الاتجاه لكبح جماح المضاربة، وتم رفع تدريجي في قيمة العملات المحلية. ويشير الدكتور جريسبن جوروسني أستاذ المالية العامة السابق في مدرسة لندن للاقتصاد، إلى أن الاقتصاد العالمي أصبح متداخلاً بشكل غير مسبوق، وما أعلنه محافظ البنك المركزي الهندي من أن التعاون المالي الدولي قد "انكسر" صحيح للغاية، فخفض الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لسياسة التيسير الكمي بقيمة عشرة مليارات دولار عمق أزمة الاقتصاديات الناشئة، فإذا أخذنا في الاعتبار أن معدل النمو الراهن في الاقتصاد الأمريكي 3.2 في المائة. وأضاف أنه من المنطقي لرؤوس الأموال أن تغادر الاقتصاديات الناشئة وتتجه إلى الولايات المتحدة للاستثمار، وستشهد المرحلة المقبلة عودة للنموذج التقليدي لأمريكا وأوروبا واليابان في جهة والبلدان الناشئة في جهة أخرى، وهذا يعني أن آليات مجموعة العشرين التي بالأساس تعد منتدى يهدف للتنسيق الاقتصادي بين البلدان الناشئة والبلدان الرأسمالية عالية التطور لم تعد تعمل وفقا لما هو متفق عليه في قمتي 2009-2010 اللتين وضعتا أسس التعاون بين الطرفين في أعقاب الأزمة المالية العالمية، ولهذا أتوقع أن يكون للقمة المقبلة أهمية كبرى في محاولة لاستعادة تلك الأسس. ومع هذا فإن التشاؤم لا يزال قائماً لدى العديد من الاقتصاديين من إمكانية إعادة المياه لمجاريها بين الاقتصاديات الناشئة والبلدان الرأسمالية عالية التطور، فقد رفض الكونجرس الأمريكي أخيرا زيادة حصة الاقتصادات الناشئة في صندوق النقد الدولي، وهو ما سيزيد من قدرة تلك الاقتصاديات في صياغة السياسات المالية الدولية. ويرفض البعض تحميل الاقتصاديات الناشئة للآخرين المسؤولية عما تعانيه من أوضاع اقتصادية غير مستقرة، ويعتبر هذا أمرا غير عادل، ويرجح الباحث روجر برودلي أن المشكلة تكمن في طبيعة الاقتصاديات الناشئة ذاتها ويقول لـ "الاقتصادية"، إن هناك مبالغة في الاتهامات الموجهة من صناع القرار الاقتصادي والسياسيين في الاقتصاديات الناشئة لأمريكا وأوروبا وتحميلهم مسؤولية الهزة الاقتصادية التي تعاني منها بلادهم، كما أن هناك مبالغة أيضا فيما قدموه لنا من عون اقتصادي عندما اندلعت الأزمة في 2008، فبفضل السياسات المالية التي طبقت سريعا، وضخ البنوك المركزية في أوروبا وأمريكا تريليونات الدولارات في اقتصاداتها الوطنية، وتبني سياسات تقشفية جادة، ساعد تلك البلدان الرأسمالية عالية التطور على الخروج من أزمتها، وليس فتح أسواق الاقتصاديات الناشئة للسلع الأوروبية أو لاستثمارات المصارف الأوروبية. وأضاف، دعونا ننظر لأوضاع الاقتصاديات الناشئة، تركيا لديها أزمة سياسة، والفساد في روسيا يعيق عمل المستثمرين المحللين والدوليين، وميزان الحساب الجاري في الهند في وضع حرج للغاية، ولهذا فإن مشكلاتهم الداخلية هي المسؤولة عن وضعهم الراهن، وأعتقد أن المشكلة تكمن في أن معدلات النمو في تلك البلدان أكبر من إمكاناتها الحقيقية، فهم يستخدمون كميات كبيرة من المنشطات كالرياضيين إذا جاز التعبير لتحقيق أرقام قياسية، فشهية الصين المفرطة للمواد الخام، أدى إلى انتعاش أسواق الطلب في تشيلي على النحاس، وفي جنوب إفريقيا على العديد من المواد الخام الأساسية، وبعض هذه الدول استخدمت منشطا آخر كتحفيز الائتمان مثل تركيا والبرازيل وبلدان أوروبا الشرقية، وعندما لم تستطع مواصلة تعاطي تلك المنشطات انفجرت الفقاعة، فالهند مثلا تسعى لتحقيق معدلات النمو الصينية 9 في المائة سنويا، بينما قدرتها الحقيقية تتراوح بين 6-7 في المائة ومحاولة تجاوز هذا المعدل ستؤدي حتما للتضخم والعجز في الحساب الجاري. ولربما تجد تلك النظرة قبولا من دوائر اقتصادية أوروبية من منطلق أن الأزمة الراهنة في الاقتصاديات الناشئة قد أثرت في أسواق البورصة الأوروبية بصورة سلبية، كما أن توقيتها أيضا سيئ للغاية بالنسبة للأوروبيين، فآخر ما يحتاج إليه الاقتصاد الأوروبي حاليا، هو مثل تلك الأزمة فهو يمر بمرحلة نقاهة بطيئة، وعملية الانتعاش الاقتصادي أو العودة إلى أوضاع ما قبل 2008 تسير بمعدلات ضعيفة، وتفاقم الأوضاع الاقتصادية في الاقتصاديات الناشئة يهدد بعودة أزمة الديون الأوروبية. فأوروبا ومصارفها لديها أكثر من 3.4 تريليون دولار قروضا في أسواق الاقتصاديات الناشئة، وهناك ستة مصارف أوروبية فقط لديها قروض بنحو 1.7 مليار دولار في الاقتصاديات الناشئة، وانفجار الأزمة في تلك الأسواق سيعني بالتبعية عدم قدرتها على سداد ديونها للمصارف الأوروبية، كما أن تراجع البورصات الأوروبية خلال الأيام الماضية يكشف عن ارتباط الاقتصاد الأوروبي أكثر من الاقتصاد الأمريكي والياباني بالاقتصاديات الناشئة.