كان من المتوقع أن تقوم تيارات الإسلام السياسي (الإخوان المسلمون ومشتقاتهم الذين لا فرق بينهم إلا بالدرجة، فالنوع هو ذاته) بعمل مراجعة شاملة ومعمقة لخطها الفكري وخطابها السياسي وتجربتها في العمل السياسي، وطريقة تعاملها مع إجراءات الديمقراطية وقيمها، لا سيما بعد أن أسقط الشعب المصري حكم الإخوان في 30 يونيو وما ترتب على ذلك من تداعيات طالت تنظيماتهم وأوضاعهم في عموم المنطقة والعالم، ولكن من الواضح أنهم ما زالوا أسرى لأفكار مؤسسيهم الأوائل ومنهجهما: حسن البنا، وسيد قطب، ويسيرون بحسب الخطط والمراحل التي وضعاها، وهو الأمر الذي كشفته مجدداً الأحداث الأخيرة التي تلت الانقلاب العسكري الفاشل والغامض في تركيا. ما زالت تيارات الإسلام السياسي تختزل الديمقراطية في جانبها الإجرائي فقط، أي الآليات أو صناديق الاقتراع التي تعتبرونها مجرد سلّم للوصول إلى السلطة، ثم تحطيمه واحتكار السُلّطة بعد عملية التمكين التدريجي، فضلاً عن أنهم يعتبرون الصندوق "إرادة شعبية مُطلقة" وتفويضاً لهم على بياض يجعلهم، كما يتهمون، يفعلون ما يشاؤون بدون حسيب ولا رقيب، وينتهكون قيم الديمقراطية مثل التعددية وفصل السلطات، وتداول السلطة التنفيذية، والحريات وبالذات حرية الرأي والتعبير، والضمير، وحقوق الإنسان، وهو الأمر الذي جعلهم لا ينتصرون للنظام المدني الديمقراطي الذي أوصلهم إلى الحكم في تركيا، بل على العكس من ذلك فإنهم يصفقون وقوفاً لإردوغان ليس لأنه رئيسا منتخباً لدولة مدنية ديمقراطية، بل باعتباره "ولي أمر المسلمين" الذي يحارب "الكفار"!، وهو الكلام ذاته الذي سبق أن قالوه عن د. محمد مرسي، وذلك على الرغم من أن تركيا دولة علمانية بحسب نصّ الدستور، وهي عضو فاعل في حلف "الناتو" العسكري، ولديها علاقات استراتيجية مع إسرائيل أكدها الطرفان عند إعادة العلاقات السياسية بينهما مؤخراً. تيارات الإسلام السياسي لا تدافع عن دولة الحريات وسيادة القانون والعدالة الاجتماعية، ورفضها لمحاولة الانقلاب العسكري ليس لأنها تهدم أركان النظام المدني الديمقراطي وتقوض شرعيته، وهو ما دعا الشعب التركي بكل أطيافة السياسية والاجتماعية إلى رفضها مباشرة بما في ذلك حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، رغم أن حزب إردوغان سبق أن أسقط الحصانة عن 50 عضواً من أعضائه البالغ عددهم 59 عضواً، بل على العكس فتيارات الإسلام السياسي تؤيد احتكار إردوغان للسلطة، وقمع الحريات، وتدافع عن الاعتقالات الواسعة التي طالت، بمجرد فشل الانقلاب، الآلاف من ضباط الجيش والشرطة وأعضاء السلطة القضائية والصحافيين والمدنيين من أجل ما يطلقون عليه "التطهير"، أي التصفيات الجسدية وإعادة عقوبة الإعدام، مما يوحي أن القوائم كانت جاهزة قبل المحاولة الانقلابية الفاشلة، وأن الشعب التركي سيعاني "مكارثية" جديدة! هذا ناهيك عن استخدامهم خطاب الكراهية، وترديد الكلمات الجارحة وعبارات التهكم القاسية ذاتها التي كانوا يستخدمونها أثناء حكمهم في مصر وبعد سقوطه تجاه أي شخص يختلف معهم في الرأي. لقد بات واضحاً، بعد ما جرى في تركيا، أن ما يهمّ تيارات الإسلام السياسي هو الوصول إلى السلطة والتشبث بها، لذا لم يكن دفاعهم المستميت عن نظام الحكم المدني الديمقراطي، بل عن شخص إردوغان وحزبه بسبب الانتماء الأيديولوجي على الرغم من سجله المليء بقمع الحريات، والتضييق على الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وانتهاكات حقوق الإنسان، واستخدام مآذن المساجد ودور العبادة والشعارات الدينية في خطابه السياسي، وسجن الصحافيين وملاحقة الإعلاميين، والبطش بالمعارضة وتحجيم ظهورها الإعلامي، والتدخل في السلطة القضائية، فضلا عن سعيه الدائم منذ وصوله للرئاسة إلى تعديل الدستور كي يعطي نفسه صلاحيات واسعة ومطلقة، مما يعني هدم نظام الحكم الديمقراطي من الداخل، أي العمل بطريقة ممنهجة من أجل "تدمير القُبّة من الداخل" حسب تعبير أحد القيادات الشابة لجماعة الإخوان في الكويت! وهكذا فقد سقطت تيارات الإسلام السياسي من جديد في اختبار القيم الديمقراطية، وثبت مجدداً عدم اعترافهم بنظام الحكم المدني الديمقراطي، فالديمقراطية بالنسبة إليهم، كما أوضحت الأحداث المتسارعة في أكثر من مكان خلال السنوات القليلة الماضية، وآخرها ما جرى ويجري في تركيا، هي مجرد إجراءات شكلية توصلهم إلى السُلطة كي يحتكروها ثم يقمعوا خصومهم السياسيين.