حين قرأت الرواية، لا أدري لما رأيتني أساق إلى الحديث عن شخصية الكاتب إيلي مارون خليل، في انسلاله بين عالمين، يشكلان عبورين، العبور الأول بين عالم الواقع المعيش يحاول له رفعاً ورفعة، وعالم الكتابة، يضفي إليه حياةً ومتعة، في كل تواطؤ بين العقل والعاطفة. فهو الراوي والبطل الحاضر أبداً في حثيث سعي لتحديد مسافات الالتباس بين الأنا والآخر، وبين الواقع والحلم. هو بطل رواياته، خلقاً وأدباً، على رقي فكر وحضور، وغنى تربوي. وإذا كانت القراءة لديه مرتبطةً بالإنسانية: «أن تقرأ إذاً أنت إنسان»، فالكتابة أيضاً هي إنسانية بمسعاها إلى التجاوز،لأنه يكتب على إيقاع الروح، يهيّئه نضج على طقوس اشتعال لا يخفتها ماء نقد وانتقاد. ماذا أراد أن يقول في هذه الرواية؟ هل أراد أن يحكي قصة عبور وعودة نعيشها كل يوم، بين ما هو كائن وما يريد أن يكون، بحثاً عن خلاّق حب وثبات سعادة؟. في عجالة قراءةٍ للموضوعات المطروحة، نجد المؤلف ينعم على الحب بالحصة الكبرى، الحب الزواج، السر والعلن، العقل والقلب، الواجب والحب: الحب المصلحة، الحب الذاكرة، الحب الذوبان، الحب الارتقاء، وهنا يظهر الشرخ الواضح في الشخصية التي تحب فترتفع وترتقي، (البطل، وحبيبته ساريا) وبين الشخصية التي لا يكتمل حبها، فتقع في الإفلاس، كما في شخصية منصور (ابن ساريا)، لتظهر براعة الكاتب في إظهار الإفلاس النفسي والعاطفي، والتيه بين الانسلال والتخفي، تأرجحاً بين عالمين وقوعاً في فخ الازدواجية بين الواقع والمرتجى. في الانسلال خفة وتخفٍ، والغاية كشف لعاطفة قنّعها عقل حييّ في ضميرٍ يأبى حلولاً مجانية، يحاول جهداً خلع أقنعةٍ تلبّس بها الناس حتى صار الزيف من جلدهم... أفلاطوني النزعة في أن من بحث جيداً وجد، وبورك لأنه بحث وليس لأنه وجد، (فيكتور هوغو)، وبحثه من أجل تحديد كل التباس، أكان انسلالاً ليليًا في غفلةٍ من قمر، أو جهراً في سهوةٍ ممن رقب، مؤمناً أن الحب مرتبط بالسعادة... والسعادة ليست ترفاً، موافقاً سبينوزا أنها ليست مكافأةً على الفضيلة، بل هي الفضيلة عينها، معارضاً ربطها بالكآبة، حين يقول: «الكآبة ليست من الحب، إنها من انقطاعه!» وقد تجلى ذلك في وجود ساريا في حياته، وهي الأرملة، حبيبة البطل المتزوج، فهي العالم الآخر الذي يعبر إليه، ويتبع من خلالها ليستسلم عقله للسرور، ساريا هي عالم العطاء الأنثوي والجمال، عالم الحب الذي يعرف أن ينضج فلا يهرم، ولا يموت: ساريا هي الحب المطلق: بعيداً من تفاصيل الحياة اليومية، ساريا هي الأمل والرجاء، الحلم الذي يبقى حلماً في العقل والقلب، ساريا هي رمز الحب - في ثلاثية الفعل - السعادة - الارتقاء. وبذلك يكون الحب عبوراً من عالم الزواج والالتزام إلى عالم السعادة ونشوة اللقيا، والبطل يعي سعادته، كفعلٍ موافق للعقل (كما عند الأبيقوريين). والعبور يتم كل يوم في ضميره، والانسلال في التباس المسافة بين حياتين تترجمها ازدواجية يعيشها، والقرار الذي توصل إليه شرعنة الحياة الأخرى عبر غطاء أعطاه الابن بمباركة هذه العلاقة، الذي اعترف في النهاية بحق أمه - الأرملة -في حبها من دون المس بانهيار الأخلاق في ذهنه، لأنه وجد من خلال علاقتها بحبيبها ألاّ خلاص إلا بالحب، وألا حياة من دون حب. وفي ذلك يصرح: «الحب؟ نعمة النعم، كل آن، كل زمانٍ، كل مكانٍ»!. أو كما يقول منصور: «الحب بالنسبة إلي طاقة خلاقة ترتقي بالإنسان إلى أكثر مما كان يحلم». وفي الاعتراف بقدرة الحب التحويلية تقديس العلاقة بين الحبيبين (أمه والبطل)، أولم يقل القديس أغسطينوس «أحبب واصنع ما تشاء»، فالحب قادر على أن يكون تلك الطاقة الخلاقة بعد اكتشاف الذات ذاتها، نضجاً ورقيّاً وسمواً. يتجاوز الحب الفكر والكلمات. هو انغمار في تجربة الوحدة، كما عند الغزالي، حيث يظهر كطريقة للمعرفة ولوعي الذات في اتحاد كلّي بين الحبيبين. «كيف تتجدد وتجدد! كيف تنبثق من روحها، جديدة موحية... وتجعلني أنبثق، منها ومني، ومعها، كما تشاؤني! كما أشاؤني». يتناول الكاتب أيضاً في هذه الرواية المصلحة في الزواج والحب في اتحاد يسمو بالعاشق إلى حدود المثال، هي أقرب إلى مصلحة الخير الكلي، اكتمال ذات في وجودين، ارتقاءً بالروح إلى منبع هي منها: «الكل مصلحته مع الكل. الزواج؟ مصلحة. «مصلحة» الفريقين. قد تختلف، لكنها «مصلحة». العشق؟ مصلحة. «مصلحة القلبين». ولا تختلف! أنت تحب لاكتمال الذاتين. اكتمال ذاتك، يكمل ذات حبيبتك». ومن ثم يطرح المؤلف صراع العقل والعاطفة في المنظومة العلائقية الاجتماعية التي تجعل الفرد يقع في مأزق القرار وتحديد صوابية الخيار بين ما يحقق سعادته تجسيداً لحبه، وبين ما تتطلبه منه الأخلاق الدينية والعامة، ليثور على ربط السماويات بالأرضيات والروحانيات بالماديات... فيقول: «تزوج كلانا كان تواطؤاً. غلطة. أنعاقَب مدى عمرنا؟». هكذا يكون المؤلف قد رأى إلى الحب على أنه وسيلة الخلاص والسـعادة وطـريقه المعرفة، مؤمنا أن الحب هو الإرادة الخيّرة، هو الفضيلة القادرة على الإسهام في تحقيق كل خير. الشحاذ صورة عن الإفلاس المعنوي للإنسان الذي يفقد الحب من حياته ويصور خسارة الهوية، نتيجة فقدان الأمل، والوقوع في فخ الازدواجية ترقّباً وقلب المقاييس استكمالاً لكل نقص حاصل عند كل حالة تتفرد بنقصها كما باكتمالها، والحصول في غاية المطاف نقصان بالوقوع في هوة الخيبة والقلق. هو التباس في تحديد الهوية، في رحلة البحث عن اليقين، تعبيراً عن إرادة إدراك هويتها، لأن مبدأ خسران الهوية لم يتحقق كلياً في الرواية، إذ أراد المؤلف أن يذكره بعلامات من جوهر كيانه، عبر نقل لوحاته، التي لا يمكن أن تنفصل عن كيانه رغم الازدواجية التي يعيشها، مضيئاً بذلك على دور الفن والثقافة في حضارة الإنسان وغناه الذي لا يمكن أن يسلب منه ولو آثر أن يكون شحاذاً. لكن خوفه على ضياع حب، جعله يتغلب على الشعور بالعزلة والانفصال، وهذا ما سمح له أن يكون نفسه، أن يحتفظ بتكامله. وفي الختام، يبقى أن نقول إن إيلي مارون خليل يمثل تيار الأدب النبيل الراقي الذي نحتاجه في زمن الجفاف الروحي، من دون أن نهمل البعد التربوي لهذه الرواية، ونصاعة اللغة واحترام مبادئها مع محاولات تجديدية اشتقاقية لا مجال لذكرها هنا، لتجسد الأدب الذي يسمو بالذات الإنسانية، الغني بالقيم والفضائل على حساب التكالب المادي الذي نعيش فيه.