من شيخوخة العلم والتعليم إلى حتمية ربط التعليم الجامعي بالبحث والابتكار والتنمية، ومنهما إلى رياح الربيع العربي وآثارها في العلم والعلوم والبحث والابتكار بين الشباب، يجري رسم خريطة جديدة للدول العربية، لكنها لا تحمل هم الفوضى الخلاقة الدائرة رحاها من وجهة نظر سياسية أو أثر التغييرات والتقلبات من وجهة نظر معيشية، ولكنها تحمل ملامح العلوم والتكنولوجيا والابتكار في هذا الجزء من العالم حتى يكون شباب المنطقة على بينة بالفرص المتاحة وتلك المهدرة. التقرير الأحدث الذي صدر عن منظمة «يونيسكو» قبل أيام في القاهرة (ضمن سلسلة تصدر دورياً على مدة العقدين الماضيين) تحت عنوان «تقرير اليونيسكو للعلوم حتى عام 2030» يشير إلى أن الأعوام الخمسة الماضية شهدت تغييرات جيوسياسية هائلة كانت لها تداعيات ملموسة على العلم والتكنولوجيا، على رغم أن التطورات نفسها لم تكن على علاقة مباشرة بمجال العلوم. ففي مصر مثلاً ووفق ما ورد في التقرير، حدث تغيير جذري في السياسات الحكومية المتبعة في ملف العلوم والتكنولوجيا والابتكار بعد كانون الثاني (يناير) 2011. وتسعى الحكومات المتعاقبة إلى تحقيق اقتصاد المعرفة باعتباره أفضل السبل لتحقيق قاطرة نمو فعال. وقال مدير مكتب يونسكو الإقليمي للعلوم في الدول العربية الدكتور غيث فريز إن دستور 2014 خصص واحداً في المئة من إجمالي الناتج المحلي للبحث والتطوير على أن «تكفل الدولة للمواطنين حرية البحث العلمي وتشجع مؤسساتها العلمية كوسيلة نحو تحقيق السيادة الوطنية وبناء اقتصاد المعرفة الذي يدعم الباحثين والمخترعين». وفي تونس، جلب الربيع العربي المزيد من الحريات الأكاديمية. لكن في ليبيا تقلل الجماعات المتحاربة من الأمل في الإحياء السريع للعلوم والتكنولوجيا. كذلك الحال بالنسبة إلى سورية الغارقة في الحرب الأهلية. ويرى التقرير أن الحدود السياسية السهل اختراقها والناجمة عن اضطرابات الربيع العربي أعطت الفرصة لجماعات إرهابية انتهازية للازدهار، إذ لا تشكل هذه الميليشيات الشديدة العنف تهديداً للاستقرار السياسي فقط، لكنها تقوض التطلعات الوطنية نحو اقتصاد المعرفة. فهذه الجماعات بطبيعتها معادية للمعرفة. وبينما تحرم الجماعات المتناحرة في الدول العربية تعليم الفتيات وتجبر الفتيان على نوعية تعليم تخدم الأفكار المتطرفة، تقر دول العالم بأهمية العلوم والتكنولوجيا والابتكار لتحقيق النمو المستدام لمدى أطول. فالدول ذات الدخل المنخفض والأقل من المتوسط تسعى إلى الاستفادة من هذه العلوم لرفع مستويات الدخل لديها، في حين تأمل الدول الأكثر ثراء بأن تساعدها هذه العلوم على الاحتفاظ بمكانتها في السوق العالمية التي تتسم بالتنافسية المتزايدة. جزء من هذه التنافسية العلمية يعتمد على جوانب مادية، وهو ما يظهر جلياً من خلال توزيع الاستثمار في مجال المعرفة والذي يحوي تفاوتات فادحة. فالولايات المتحدة الأميركية تهيمن باستثمارات في مجال البحث والتطوير تبلغ 28 في المئة، تليها الصين بنسبة 20 في المئة، ثم بقية دول الاتحاد الأوروبي بنسبة 19 في المئة، واليابان بنسبة عشرة في المئة. أما بقية دول العالم بما فيها الدول العربية، والتي تشكل نسبة 67 في المئة من إجمالي سكان العالم فتساهم بـ 23 في المئة. لكن الدول العربية في مأزق لا تحسد عليه. فعدم قدرة أغلبها منذ عام 2008 على التعامل مع الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية لقطاعاتها الشابة العريضة في شكل كفء أدى إلى غضب واحتقان كبير بينها. واليوم حيث أكثر من 30 في المئة من تعداد الدول العربية دون الـ 15 عاماً، يتوقع أن تسوء معدلات البطالة بين الشباب. ويذكر أن الباحثين عن فرصة عمل من الشباب يشكلون 40 في المئة من تعداد العاطلين في العالم العربي. وعلى رغم أنه منذ عام 2013، حققت الدول العربية نسبة 30 في المئة معدل التحاق شبابها بالجامعات (ووصلت النسبة إلى 40 في المئة في الأردن ولبنان وفلسطين والسعودية) إلا إنها فشلت في إيجاد فرص عمل مواتية لهذه الأعداد المتزايدة من الخريجين. وعلى رغم أن دول المشرق العربي بالإضافة إلى مصر والسودان تعد مخازن عامرة بالموارد البشرية الشابة القادرة على تزويد الدول المحيطة بحاجاتها من المعلمين والباحثين بالإضافة إلى العمالة الماهرة وغير الماهرة، إلا أن نسبة البطالة بين الشباب تتصاعد. من جهة أخرى، فإن التعليم الجامعي في غالبية الدول العربية يعاني العديد من المشكلات بينها الفجوة العميقة بين التعليم الذي تقدمه لطلابها وحاجات أسواق العمل. وفي عام 2011، دشن مكتب يونيسكو في القاهرة «شبكة تمديد التكنولوجيا المتقاربة في العالم العربي» وهي المبادرة المعروفة بـ «نكتار»، وذلك بهدف تضييق الهوة بين المهارات التي تحتاجها سوق العمل والبرامج التعليمية التي تقدمها الجامعات. والهدف من المبادرة هو إيجاد نقاط تلاق بين الأكاديميا في الجامعات والصناعة، وإزاحة العوائق التي تحول دون الابتكار في العالم العربي. إلا أن الربيع العربي جعل من المدن العربية مصدر قلق أمني، ما عطل تفعيل المبادرة. ولأن الابتكار لا يتم من دون بحث، والبحث يعاني الأمرين في العالم العربي، فقد أشار التقرير إلى أن العديد من الدول العربية يربط بين أعداد الخريجين الجامعيين والأساتذة وبين أعداد الباحثين، وهو ربط غير صحيح لأن قليلين فقط من الطلاب والأساتذة يقومون بعمل بحثي وينشرون أبحاثهم في دوريات علمية. وبينما يشير التقرير إلى أن الإنفاق على النواحي العسكرية زاد في دول المنطقة بنسبة أربعة في المئة في عام 2013 ليصل إلى نحو 150 بليون دولار أميركي، حيث الضغوط الأمنية المتصاعدة على دول المنطقة العربية - لا سيما تلك المتعلقة بالقاعدة وداعش - دفعت الدول لتصعيد إنفاقها على النواحي العسكرية، مع انخفاض نسبة الإنفاق على البحث والتنمية في العالم العربي في شكل عام، إلا أن ثمة أملاً يلوح في الأفق، مع زيادات طفيفة في نسبة الإنفاق على البحث والتنمية كما في مصر، وزيادة كثافة الباحثين والتي تقاس بأعدادهم لكل مليون مواطن والتي شهدت زيادة طفيفة في الأردن والمغرب وتونس. وعلى رغم ذلك، ما زال الإنفاق الأكبر على البحث والتنمية يتم من خلال القطاعات الحكومية في أغلب الدول العربية، ويقتصر دور القطاع الخاص على حيز ضئيل جداً. وفي مصر، تقدر مساهمة القطاع الخاص في مجال البحث والتنمية بنسبة خمسة في المئة فقط من مجموع ما تنفقه البلاد على هذا المجال. إلا أن الأردن وتونس والإمارات وقطر وعمان والمغرب تعد استثناءات للقاعدة حيث يشارك القطاع الخاص بقدر كبير في البحث والتنمية. ويحذر التقرير من استحالة استمرار بقاء دولة أو منطقة مجرد «مستخدم للمعرفة»، بل عليها أن تتحول إلى صانع لها. هذا الدور حتمي من أجل بناء واستدامة الرفاهة الاجتماعية والاقتصادية. إغلاق فجوة الابتكار بات ضرورة حتمية، لا سيما في الدول العربية المتأخرة إلى حد كبير في هذا الشأن، وهي مهمة تقع على عاتق الجامعات في المقام الأول. مطلوب من الجامعات العربية أن تنتقل في قطاع البحث من المقعد الخلفي إلى الأمامي، مع سرعة الخروج من الآثار السلبية والوخيمة لفوضى ما بعد 2011 وضخ دماء شابة لتجديد شيخوخة منظومة التعليم والبحث، حتى تستطيع اللحاق بعالم العلوم والبحث والتنمية والجامعات العالمية التي أضحت نقاط تعاون وبحث وابتكار وانتقال إلى المستقبل بخطى بالغة السرعة. لذا فالتعاون بين الجامعات من أجل التشارك في العمل الأكاديمي والإنتاج البحثي والدمج بات من الأمور المعتادة في مناطق عدة في العالم، ومن باب أولى تطبيقه بين الجامعات العربية حيث أوجه التقارب والشبه كبيرة. يقول التقرير «جامعة الغد منشأة ومتعددة الدرجات والأوجه حيث حرم جامعي حيوي يحوي العديد من الهوائيات المتصلة بشركاء استراتيجيين وتواجد افتراضي في المجتمع الأممي الجامعي».