هذه الحياة كُتب على الإنسان أن يطأ على ظهرها فهو في دار ابتلاء وامتحان من الله ليعلم من يخافه بالغيب قال الله تعالى في وحيه الطاهر {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} وما دمنا خُلقنا لذلك فحريّ بنا جميعاَ بنو الإنسان أن نمثل أمام الله يوم الدين ونحن أتقياء خُلص من كل شائبة تخدش مكانة البشر التي قال الله عنها في وحيه الطاهر {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} إذا فهذه الحياة الفانية ما هي ألا جسرٌ نعبر عليه لجنان الخلد التي يقول الله عنها {لِمِثْلِ هَذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ} ولكننا نحن البشر نبعد النجعة ونشط عن الهدي القويم. ومن ثمَ ننظر إلى هذه الحياة وإلى ملذاتها وشهواتها المنظورة وغير المنظورة متطلعين إليها متصارعين فيها كالحيوان بل أشد شأواً من ذلك. إن ملاذ الدنيا جُبل الإنسان على امتطاء صهوتها و من ثمَ يرخص أمامه ما أعده الله لعباده الذين طلقوا الدنيا وجعلوا الحياة الدنيا مهراً لدار الخلد. ما أريد أن أنفذ إليه في هذا المقال.. إننا نحن البشر على ظهر هذه البسيطة شغلنا الشاغل وهمنا الوحيد هو المناصب والكراسي ونازعنا في ذلك من ولاه الله علينا. وهذا التصرف منبثقٌ من كوننا نعطي الدنيا وزناً أكبر من وزن الدار الآخرة وما أعده الله نزلٌ لأهلها، فالذي زهد في الدنيا وفي حطامها تطلع إلى ما هو أسمى من ذلك غاية ونتيجة. إن الإنسان الذي مع ربه ويعيش في كنفه متوجها إلى فناء الله الواسع فهو في سعادة غامرة لا زيف فيها ولا خداع قال الله تعالى {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} وقال تعالى كذلك {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَر أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِن فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاة طَيِّبَة} إن القرب من ملكوت الله والالتجاء إليه في العسر واليسر لهو كفيل بأن يُزلفنا إلى تلك السعادة التي يجترها صاحبها كل أيام حياته هذا فضلا عما يجده في جوار ربه يوم الرحيل فيجد عند الله ملذات صادقة غير تلك الملذات التي يتطلع إليها في الدنيا والتي هي دائماً تخدع أصحابها.. وما هي إلا كالسُكر سريعاً ما يذهب ومن ثمَ تطلُ برأسها عليه المشاكل والهموم مرة أخرى!! إذاً يا شعوب العالم جميعاً لماذا يكون همنا متاع الحياة الدنيا الفاني؟ الذي قال الله عنه في وحيه الطاهر {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} إن هذه الآية تصور لنا حقيقة الدنيا تصويراً بلاغياً يضرب أطنابه في سويداء القلوب. ما أود أن أخلص إليه أن البشر لن يعيشوا في وئام وسلام وهم يتقاتلون من أجل حطام الدنيا وملذاتها الكاذبة. إن ذلك الإنسان الذي يملك جماح نفسه ويلجمها بلجام الحكمة ومن ثمَ يصبح قادراً على أن يجعل نفسه في عيشة راضية ويروضها لبغية الله تعالى هو ذلك الإنسان الذي ملك الدنيا ببرها وبحرها وسماءها. إن الإنسان الذي يملك العالم ولكنه لا يملك نفسه فهو في شقاء وعذاب وما الفائدة أن نملك الدنيا ونفقد أنفسنا؟ إن الإنسان الذي يملك العالم بأسره ولكنه لا يملك نفسه فهو في جحيم وعذاب سرمدي، فإن امتلاك الدنيا وفقدان النفس هو الخسارة والفقر المدقع، إن هذا الإنسان الذي جعله الله خليفة في أرضه لن يتكيف ولن يطمئن ولن يهدأ له بال وليملك شرة نفسه إلا بشيء واحد ألا وهو رضا الله عنه وليعلم هذا الإنسان أنه ضعيف أمام خالقه لا يملك حولا ولا قوة إلا بعون من الله وتوفيق. يا بني الإنسان إن صدرك لن يكون واسعاً إلا بمعرفة الله الخالصة فما تنفع الدنيا بسعتها مع ضيق النفس؟ إن الشعوب أحياناً لا تقدم لساحة الحياة والسباق فيها شيئا يذكر ومن ثم يتولد عند هذا الشخص أو ذاك عقد النقص والدونية ومن ثم يقفز إلى أمجاد الآخرين بوسائل غير مشروعة! ولكن لو أن الإنسان يضيف إلى سجل الحضارة أي شيء يذكر لقيم ذاته ولم يكن على قارعة الطريق يتلصص على أمجاد الآخرين يقزمه أحيانا ويعبث به أحيانا أخرى.. يقال إن شاعراً أنشد بيتاً في عهد المأمون وكان هذا البيت من الشعر له مضامين عالية وأهداف نبيلة فقال المأمون حينها لهذا الشاعر أعطني هذا البيت وخذ الخلافة.. إذا لو أن الشعوب كان لها أمجاد لما تطلعت لأمجاد غيرها ومن ثمُ يعيش الناس بسلام ووئام فتعود السيوف إلى أغمادها.إن جميع المشاكل التي أطلت برأسها اليوم ما هي إلا بهذا السياق.. إن الدنيا بيد الله تعالى يعطي هذا ويمنع ذاك ابتلاء وحكمة من لدنه، فلا يستطيع الواحد منا أن يتكيف مع أقدار الله الخفية والعواقب التي مآلها إليه إلا بالتسليم لقدرة الله وحكمته، إن العالم الذي قطع شوطا في مضمار الحياة نراه يعيش اليوم في تجانس اجتماعي لأنه وعى أن الذات البشرية تكمن قيمتها بما تقدمه للبشرية من أمجاد تضيف إلى سجل الأمجاد شيئا فالرئيس في العالم المتقدم يقيم ذاته لأنه أصبح رئيسا وبنفس الوقت الصانع والطبيب والمعلم وغيرهم يقدرون أنفسهم ويقدرهم الآخرون بتلك المعطيات التي أضافوها لمجتمعاتنا. إن شرعنا قد سبقهم بذلك فهو يطفح بأمور كثيرة حول هذا الموضوع ولا يتسع المجال لذكرها، ولكن إن كان ولابد أن أقول شيئا فهذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (قيمة الإنسان بما يحسنه).