البعض يعتقد أنه أمر إيجابي إيجاد مقاعد جامعية كثيرة بحيث يلتحق بالجامعة أكثر طلبة الثانوية، وبتنا نتغنى بأننا قبلنا جميع الطلبة المتقدمين، ليس ذلك فحسب بل ثمة مقاعد شاغرة بعشرات الآلاف، لم يتقدم لها أحد. هل هذا أمر إيجابي وفق المعايير والممارسات العريقة في مجال التعليم العالي؟ الجامعات لم تؤسس لكي تكون ميدانا يتسابق فيه النابهون والخاملون، بل هي مارثون شاق لا يطيقه إلا المتقدون المقتدرون. الجامعات أسست فقط لنخبة الطلبة ذوي الإرادة الصلبة والقدرات العالية على اكتساب المعرفة والتزود بالمهارات مع الجدية اللازمة للاستمرار في التعلم والظفر بخبرات متراكمة، بطريقة تقنع سوق العمل بتقديم وظائف جيدة لهم. في كثير من دول العالم لا تقبل نسبة كبيرة من طلبة الثانوية في الجامعات، ففي بعض الدول لا تزيد النسبة عن 20% وقد تصل إلى 30% أو 40% وفق معايير صارمة. لنأخذ مثالاً واحداً وليكن في سياق عربي من أجل المقارنة. في المملكة المغربية يوجد اختبار مؤهل للقبول الجامعي وهو «اختبار البكالوريا». في كثير من السنوات تتراوح نسبة من يجتازه من30 إلى 45% فقط، وأما البقية فيتوجهون إلى التعليم الفني وإلى بقية المؤسسات التعليمية والتدريبية مع ذهاب بعضهم إلى سوق العمل مباشرة. أما جامعاتنا السعودية فمكدسة بمئات الآلاف من الطلبة، وأقطع - ويقطع كثيرون معي - بأن نسبة كبيرة لا تفي بالمعايير الجامعية الجيدة، فهم يملأون القاعات ويزحمون الساحات، ويجرجرون أنفسهم متثاقلين عن كل شيء، سوى الأحاديث الفارغة والنقد الأجوف لهذا الأستاذ (السمين) وذاك الأستاذ (أبو شنب).. فضلاً عن نقد كلياتهم وجامعاتهم التي لا ترقى لتطلعاتهم الكبار! نمط التعلم لديهم سطحي بيئس، لا يتجاوز استظهار معلومات قشرية تتبخر فور خروجهم من ردهات الاختبار. أمثال هولاء لا يصلحون للجامعة، وقبولهم كان خاطئاً في بداية الأمر، ولا تتجسد الخسارة في عدم الانتفاع من المصاريف الكبيرة المنفقة على تعليمهم، بل يتجاوز ذلك، فوجودهم بهذه الأعداد الضخمة يؤثر على مستويات الجودة في الجامعات، فالأستاذ لا يستطيع أن يحاضر بشكل كفء في قاعة تمتلئ بعشرات الطلبة، فكيف إذا كان يرى بأم محاضرته انجفالهم عن التعلم الحقيقي وتشاغلهم بأجهزتهم «الذكية» أو بأحاديث جانبية أو جلوسهم بـ»وضعية المزهرية» كما بات الشباب يعبرون. في مثل هذه السياقات، يفقد الأستاذ حماسة التعليم ومتعة المحاضرة ولذة النقاش، ليكون أداؤه رتيباً بحدود دنيا، لا أكثر وربما أقل. التعليم العالي رافد محوري لتحقيق أي نهضة تنموية متماسكة، وعليه، فإنه يجب التعويل على التعليم العالي للإسهام في تحقيق رؤية السعودية2030، ويفترض أن يكون ثمة مبادرات عديدة تحقق قفزة نوعية في هذا الاتجاه. آمل ذلك، على ألا يكون ذلك في قوالب إعلامية شكلية. نقطة الارتكاز في هذه المقالة هي القبول في الجامعات السعودية، حيث لم أجد أي انعكاس واضح لرؤية2030 على القبول للعام الجامعي القادم، فالأمور على ما هي عليه في سنوات خلت، بذات المعايير والأعداد والطريقة. وهنا يحق لنا التساؤل: أين وزارة التعليم عن هذا الملف؟ هل تملك الوزارة رؤية ناضجة حيال القبول في الجامعات؟ ماذا تقول لنا خطة آفاق إزاء القبول؟ هل عقدت الوزارة ورش عمل لتدارس الانعكاس الواجب للرؤية على القبول في الجامعات؟ هل ثمة تصورات ولو أولية عن هذه المسألة الجوهرية؟ إن كانت الوزارة تملك شيئاً من هذا القبيل، فلم لم نر شيئاً ملموساً هذه السنة؟ ألا يعد الوقت عاملاً حرجاً لنا في تصحيح أوضاعنا في مسار التعليم العالي؟! من الأهداف المقررة في الرؤية أن تكون خمس جامعات سعودية على الأقل ضمن أفضل200 جامعة بحلول عام 2030، مع السعي لردم الفجوة بين سوق العمل ومخرجات التعليم العالي، وتحسين قدرات الجامعات على تزويد الطلبة بالمعرفة والمهارة التي تتطلبها الوظائف في المستقبل. هل يمكن تحقيق مثل هذه الأهداف الكبيرة والجامعات السعودية تغص بمئات الآلاف من الطلبة؟ في رأيي، لا يمكن ذلك إطلاقاً، ولذا فإن الأمر يحتاج إلى معالجة شاملة سريعة جريئة، ولو بطريقة ممرحلة. نعم،لم يمض وقت طويل على رؤية2030، ولكني كنت أود من وزارة التعليم مواكبة أسرع لهذه الرؤية، ولا سيما فيما يتعلق بالملفات الكبيرة وعلى رأسها القبول الجامعي. اخرجوا علينا وأخبرونا بما يدور في رؤوسكم؟ كيف تفكرون؟ وما المسارات وما المراحل وما البدائل الجيدة أو الممكنة؟ لا يصح أن تطبخ القضايا الاستراتيجية على نار هائجة من الضجيج الاجتماعي، وداخل قدر مضطرب بالمشاعر والرغبات. أنا أدرك أن القبول في الجامعات قضية اجتماعية حساسة، ولذلك فلابد من الحديث بصوت عال لكي نتفهم القضية بشكل واع وبما يحقق المصالح الوطنية العليا. آن أوان إخراج القبول الجامعي من ساحة الاشتغال الاجتماعي إلى اشتغالات استراتيجية، تتأسس على معطيات علمية صرفة، وتوجه بالأهداف المتوخى تحقيقها وفق مؤشرات دقيقة. إصلاح العطب في القبول الجامعي يتطلب إصلاحاً جذرياً في منظومة التعليم التقني والمهني. لقد عملت في التعليم التقني والمهني قرابة 15 عاماً وخبرت كثيراً من مساراته وأدركت كثيراً من خفاياه. ومن خلال هذه التجربة وعبر متابعتي للتعليم التقني والمهني في السنوات العشر اللاحقة وصلت إلى أنه لا ينبغي أن يستمر التعليم التقني والمهني حبيساً لاجتهادات القائمين عليه، فمرة يقررون التدريس بالإنجليزية، ثم يعدلون عنه، ثم يجلبون بعد سنوات كليات أجنبية (ما يعرف بكليات التميز)، على أساس أنها الحل الناجع لتعضيد الجودة وتعليم الإنجليزية، وفي الواقع المشاهد لم نر أي نجاحات تذكر لهذه الكليات التي صرف عليها مبالغ طائلة، للأسف الشديد. بالغ الإخوة في التعليم التقني والمهني في إبعاد «المكون التعليمي» من أجل ترسيخ «المكون التدريبي»، غير أن ذلك لم يكن في قوالب علمية متزنة. من جهة أخرى، طبقوا الدراسة الفصلية (فصلين)، ثم انتقلوا إلى الدراسة الثلثية (ثلاثة فصول في السنة)، إلا أنهم أعلنوا مؤخراً بأنها لا تناسب، وهكذا. أكثر ما يحدث في التعليم التقني والمهني مجرد اجتهادات وتجارب مؤقتة لا تثمر شيئاً ذا بال، مع تكلفة باهظة ومخرجات ضعيفة. التطوير الجذري في التعليم التقني والمهني يتطلب فكراً إدارياً وتقنياً واستراتيجياً من نوع آخر. هذا الفكر أراه في مؤسستين عريقتين، هما/ أرامكو، وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وعليه فإن الحل يكمن في رأيي في تكليف إحدى هاتين المؤسستين - عبر بعض قيادتها - من أجل تطوير المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني بمنظور يتلاءم مع رؤية طموحة كرؤية 2030. ومثل هذا التطوير سيفلح في ردم الفجوة بين هذه المؤسسة والتعليم العالي، حيث شهد العقد الأخير تجافياً غير مبرر من المؤسسة عن كل ما يحدث تقارباً مع التعليم العالي، للخوف من ضم الكليات التقنية إلى وزارة التعليم العالي؟!. نحن بأمس الحاجة إلى رؤى تطويرية على أسس صلبة، مع وجوب تحقيق التعاون والتكامل في مسارات التعليم بمختلف ألوانه وأشكاله. وأعيد السؤال: أين رؤيتكم يا وزارة التعليم حيال القبول الجامعي ضمن رؤية 2030؟ ألا يستحق هذا العام ولو توجيهاً مرحلياً لترشيد الأعداد الكبيرة في جامعاتنا وتقليل التخمة الكمية؟ وماذا عن الجانب النوعي في القبول؟ ألا تمتلكون توجيهات ومعطيات عامة لتوجيه القبول في تخصصات ومسارات معينة وفق متطلبات الرؤية؟ أعطونا ما لديكم، فالوقت حرج، ونحن نسابقه من أجل التحسين والتطوير ورفع الجودة وصناعة مخرجات جيدة في جامعاتنا المتخمة!