تُقدم العلوم الإنسانية للطلاب في دراسات مختصرة يمكن حفظها أو بالأحرى يسهل حفظها على العقل البشري غير المتخصص، الذي يُطلب منه وهو يتهيأ للدخول إلى مواسع الحياة، أن يلمّ بالقليل القليل من كثيرها الكثير. ثم نكتشف مع الأيام والعلم والعلماء، أن كل تعريف أكاديمي له تعريف آخر في قلب تعريف إضافي، وأنه لا حدود لأعماق وآفاق الموهبة الإنسانية. يبهرني بين هذه العلوم علم النقد الذي لم أجد له حتى اليوم تعريفًا كافيًا، إما لأنه بحر أدبي لا يكف عن اختلاق أمواج جديدة، وإما لمحدودية عندي. حتى إنني أتساءل في بعض الحالات أيهما أهم، النقد أم العمل. ففيما نرى أن العمل نفسه قد توقف، نجد أن بحر النقد لا يزال يتدفق على نحو عجيب. وما يسمى «صناعة شكسبير» لا يزال إلى اليوم يشهد صدور ألف كتاب في العام، كل عام، حتى الآن. وقد يشعر كل واحد منا، في حالات كثيرة، أنه لم يكن ليُجيد قراءة الأعمال الكبرى، لو لم يرشده إلى ذلك النقاد الكبار. في جميع الأحوال، يظل الناقد في رفقة القارئ مثل دليل السياحة في آثار أسوان. كلما أقدمت على مزيد من المطالعة أكتشف كم أنني مَدين لفن النقد وجُهد النقّاد وسِعة معارفهم، وغالبًا رقي موضوعيتهم وثرواتهم الأدبية. وأشعر أن نقد بعض الأعمال الكبرى قد تحول هو نفسه إلى صناعة أدبية مستقلة عن الأعمال التي يتحدثون عنها، وربما أحيانًا بعيدة عنها كذلك. لكن على نحو ما، لا تزال تضيف إليها الإضافات والأبعاد ومتعة القراءة. ويؤسف أن صناعة، أو فن، أو علم، أو أدب النقد لم يزدهر كثيرًا في عالمنا العربي، كما ازدهر وتقدم في الغرب. ربما أن السبب الأساسي هو الموقف من الكتاب في الأصل. وربما عاد الاكتفاء بقراءة النصوص من دون حاجة إلى شارح أو مفسر أو مرشد. ومع ذلك، لمعت أسماء جليلة في هذا الحقل - بقدر معرفتي - أهمها لويس عوض ومحمود أمين العالم ومارون عبود في لبنان، وغالي شكري ومحيي الدين صبحي وجورج طرابيشي وعابد الجابري. لقد تعامل هؤلاء مع الأعمال التي تصدّوا لها بدرجة كبيرة من الجديّة، ولو أن الطبع العربي، أو بالأحرى البشري، غلب أحيانًا على عواطفهم المعاكسة أو المؤيدة. وكما أن للشعراء الحق في فرض الخطأ، فإن النقّاد حقوقهم في فرض التفسير. يذكِّرني ذلك بحكاية الطالب الذي سأل أستاذه تفسيرًا للحادث الرئيسي في ملحمة «الإلياذة» قائلاً: «لماذا أقدم أخيل على سحل جثة هيكتور حول أسوار طروادة»؟ فأجاب الأستاذ: «إنك طبعًا تعرف أن (الإلياذة) مليئة بالأشكال الدائرية كالدروع ودواليب العربات، وأنت تعرف ما قاله أفلاطون عن أن الإغريق خُلقوا من أجل تطوير العلوم الهندسية». فأجاب التلميذ: «شكرًا على هذه الإضاءة الجميلة. فقد كنت أعتقد من قبل أنه فعل ذلك لأنه كان غاضبًا».