من رحمة الله - سبحانه وتعالى - على عباده، تلك النفحات التي يرسلها لعباده المؤمنين، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( إن لربكم في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها)، هي نفحات الإيمان، تهب من عالم الغيب وتغشى قلب المؤمن، والمطلوب من المؤمن أن يتعرض لها ويتحراها كذلك، وعبادة المؤمن واسعة الوسائل، وقصائد المؤمنين تجعل من شعرهم عبادة لوجه الله - سبحانه وتعالى - وفي الشهر الكريم في أيام رمضان يصبح المؤمن في وضعية تلقي النفحات، وصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، في قصيدة تسابيح وهو الابتهال الذي بذل فيه الكلمات الوضيئة المتضرعة لله - سبحانه وتعالى - والمناجية له، والمصورة لجمال ملكوته وعظيم نعمه ومعجزاته. إن القصيدة تطوف بنا في تماسك لغوي بديع في تلك العوالم الجميلة في أيام مباركة وأوقات فاضلة، وأحوال شريفة، من شهر رمضان المبارك، الذي تتوجّه فيه القلوب صوب السماء، والقصيدة هي تصوير بديع لعظمة الخالق، هي سياحة في ملكوته، في بهاء خلقه، مع مقدرة لغوية وبيانية حملتها أبيات القصيدة التي جاءت منتظمة في وحدة موضوعية بديعة منسوج وزنها على بحر الخفيف ذلك الهادئ الرزين، وهي الرزانة الباعثة على الحركة والتواصل لا على السكون والانقطاع، وقد سمي بهذا الاسم؛ لأنه خفيف على اللسان طري على الآذان قريب من النفس، ومن المعروف أن استخدامات هذا الوزن عند القدامى جاءت في أغراض قريبة من مواطن الأداء النفسي، كالتأمل والحكمة والرثاء، كما استعمل لإبراز الحوار الداخلي ما بين الشاعر وأعماقه، ولقد جمعت القصيدة بين التأمل في معجزات الخالق العظيم، وبين الحوار الهادئ مع الذات في اتجاه مناجاة الله - سبحانه وتعالى - واستعراض مقدرته ونعمه وبدائع خلقه: سبّحتْ باسمك المجيدِ السماءُ وتسامتْ بإسمِكَ الأسماءُ يا عظيماً ويا حليماً وفرداً من عطاياكَ دامتِ الآلاءُ سبّحتْ باسمكَ الحميدِ البرايا وتعالى إلى عُلاكَ الدّعاءُ أحدٌ واحدٌ سميعٌ عليمٌ كلّ أمرٍ لهُ إليكَ انتهاءُ القصيدة تعكس في تصويرها البلاغي البديع، هذا المشهد الذي تقف فيه السماء مسبحة لربها، وكذلك كيف أن النفوس تتسامى وترقى باسم الله، ويلاحظ هنا هذا الاستخدام المكثف لأسماء الله الحسنى، وهي تستخدم دائماً عند المؤمنين للتقرب والتضرع إلى الله - سبحانه وتعالى - بل إن ترديدها ومعرفتها سبب من أسباب دخول الجنة، بل إن الأسماء الحسنى أصل عبادة الله - تبارك وتعالى - قال أبو القاسم التيمي الأصبهاني في بيان أهمية معرفة الأسماء الحُسنى: قال بعض العلماء: أول فرض فرضه اللهُ على خلقه معرفته، فإذا عرَفه الناس عبدوه، وقال تعالى: فاعلم أَنهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللّهُ، فينبغي للمسلمين أن يعرفوا أسماء الله وتفسيرها، فيعظموا الله حق عظمته، وعن أبيّ بن كعب - رضي الله عنه - أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، انسب لنا ربك، فأنزل الله تعالى: (قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد)، وقال تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها)، الأسماء الحسنى هي أعظم الأسباب لإجابة الدعاء، والقصيدة تناولت كذلك عطايا الله - سبحانه وتعالى - على عباده فكانت سبباً للنعم التي لا تعدّ ولا تحصى، وكيف أن الخلق كله في حالة تسبيح دائمة له - سبحانه وتعالى - وتصوّر القصيدة حال النفوس المتضرعة، في دعاء الأكف الساعية عبر هذا الدعاء إلى ربها، إلى عليائه - عز وجل - فهو إليه الأمر من قبل ومن بعد، وإليه انتهاء الأشياء كلها بيده الخير. ترزق الطيرَ دونَ سعيٍ وكدٍّ باتكالٍ به يكونُ النماءُ سبَّح الكونُ كلّه لإلهٍ واحدٍ واجب عليه الثناءُ والله - سبحانه وتعالى - ومن نعمه العظيمة ذلك الرزق على مخلوقاته حتى التي لا تسعى، ونلمح هنا هذه المفارقة التي أبرزتها القصيدة، بأن يخرج النماء من الاتكال في بعض الأحوال التي اختص بمعرفتها الله - سبحانه وتعالى - هو الواحد الذي يسبح له كل المخلوقات وليس فقط البشر. أنزل الكتبَ أرسلَ الرسلَ أنبا وهدَى الناسَ آيُهُ والضِّياءُ حينما تُنصَب الموازينُ يوماً لحسابٍ به يحينُ اللقاءُ عندها نرتجي من اللهِ عفواً حين يأتي محمدٌ واللواءُ وهنا تتحدث القصيدة عن نعم الله - سبحانه وتعالى - الذي أنزل الكتب وأرسل الرسل، هداية للناس كافة، ونقلهم من ظلمات الجهل والكفر إلى نور الإيمان، وتعكس القصيدة الغاية من أن خلق الله للبشر هي عبادته، ليكون يوم القيامة فصلاً، ومعرفة للذين عبدوه والذين عصوه، وهنا تكمن إشارة ورسالة في غاية الأهمية، وهي أن الله - سبحانه وتعالى - هو الأدرى بالذين آمنوا، وهو الذي يحاسب ويعاقب على الكفر، وهو الذي يجزي على الإيمان، وفي يوم القيامة يتمنى الناس عفو الله وينتظرونه، ليأتي محمد - صلى الله عليه وسلم - حينها حاملاً لواء الحمد ليشفع للناس؛ ابتغاء رحمة الله عز وجل. فاجعل المصطفى شفيعاً وكنْ لي غافراً، ذاك مطلبي والرجاءُ ويوم لا ينفع مال ولا بنون يكون المصطفى - صلى الله عليه وسلم - هو الشفيع للناس، والقصيدة تبلغ ذروتها في الابتهال في هذا البيت الذي يرجو فيه سموه المغفرة، وأن يجعله الله من الذين ينعم عليهم بشفاعة صاحب لواء الحمد محمد صلى الله عليه وسلم. فيض خشوعي في شهر البركة دبي: الخليج ابتهال تسابيح لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، فيض روحاني خشوعي مفعم بمعاني الإيمان والامتلاء باسم الله وتسبيحه، واللجوء إليه تعالى في شهر البركة والروح والخلق والإنسانية. الابتهال يتجاوز كونه بناء شعرياً منتظماً في لغة إيمانية، وإيقاع سمائي إلى نوع من حوار القلب والعقل والروح والوجدان مع الخالق رب الأرض والسماوات والكائنات. الابتهال، وبخاصة بلغة (التسبيح) يعود بالمرء إلى خشوعيته وحقيقته البشرية وآدميته. يعود بالمرء إلى فطرة الإنسان التي هي هبة وصنعة المولى عز وجل، والابتهال تطهر وتنقية وذهاب ميسر إلى أبواب الرحمة والغفران. الابتهال، أيضاً في الذاكرة الدينية وفي الذاكرة الاجتماعية هو تقرب من النور، بل في الابتهالات ثمة أقباس من النور تخرج من القلب وتعود إليه.. إنها ذبذبات روحية، وفيوض، وترجيعات الإنسان في ذروة صفائه وبياض سريرته. ابتهال تسابيح جاء على وزن الخفيف (.. فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن..) أو صور هذه التفعيلات، وهذا البحر هو بالفعل خفيف الإيقاع، وخفيف الموسيقى، وخفيف الوزن على الأذن التي تألف هذه التقابلات الموسيقية بين التفعيلات. يلائم البحر الخفيف طبيعة الابتهالات، وبالطبع تلائمه أبحر خليلية أخرى مثل الطويل والبسيط وأحياناً يخرج الابتهال من قلب قائله بعفوية وزينة هي - الجوهر الصوتي - إن جازت العبارة - للابتهال. يؤالف صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في ابتهال تسابيح بين ما هو ديني حميمي خشوعي، وما هو شعري إبداعي إلهامي. يؤالف بين صوت الابتهال، وسريرة الابتهال. بين ما هو داخلي، وما هو خارجي، بين ما هو (أرضي)، وما هو (سمائي) بإقاعية شعرية دافئة، وتسلسل دعائي تسبيحي من تسبيح السماء إلى المطلب والرجاء. كل شيء يسبح باسم الله. الكائن الحي والجماد. الشجر والحجر والبحر. السماء والأرض والإنسان والطير والحيوان. هذه حقيقة الكائن البشري وحقيقة أي كائن في الأرض والسماء والبحر. التسبيح الآدمي بالقلب وبكل الكيان البشري. التسبيح الذي يجعل الأسماء والأحياء والجمادات سامية قريبة من السماء. قريبة من الحق والمعرفة والنور. في البيت الثاني من الابتهال، من الطبيعي أن يلجأ المبتهل إلى النداء. إنه يلوذ بالعظيم والحليم والفرد الذي من عطاياه تدوم النعم. ترتفع عادة وتيرة الابتهال عند النداء. إن النداء في هذه الحالة الروحانية هو ذروة التقرب من المولى، وذروة التقرب من السماء التي تدور في أفلاكها الأرواح. يا عظيماً ويا حليماً وفَرداً من عطاياكَ دامتِ الآلاءُ سبحت باسمك يا الله جميع الناس. لا فرق بين أبيض وأسود. لا فرق بين ميسور ومعسور. لا فرق بين شرقي وغربي. لا هذا من تلك الطائفة، ولا ذاك من هذا المذهب. الناس سواسية كأسنان المشط في التسبيح باسم الله، ومن قلب هذه البيئة السامية الروحانية يصعد الدعاء الصادق الطاهر إلى ذروات السماء. كل شيء ينتهي إلى الله. إلى خالق السماوات والأرض والكواكب. إنه الواحد الأحد. السميع العليم. هكذا هو تأكيد القلب على ما يؤمن به، وعلى ما يحمله من نعمة الإيمان. ينهي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ابتهال تسابيح بهذا البيت الروحاني النوراني الفائض بالدعاء وطلب المغفرة: فاجعل المصطفى شفيعاً وكن لي غافراً ذاكَ مطلبي والرَّجاءُ ابتهال من القلب ومن الروح، ومن المعنى العظيم لخالق السماء والأرض. ومنه تعالى المغفرة بشفاعة سيدنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم. في شهر رمضان. شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، شهر اكتمال ذات الإنسان بالأخلاق والرفق والطمأنينة، شهر التسامح وكل المعاني والقيم السامية يعود الإنسان إلى ربه وإلى سره الإلهي بما أعطاه الله من لغة وموهبة، ولغة الشعر هي الأقرب إلى القلب، ومن القلب تصدر الكلمة الطيبة المولودة من النور. منابع النور محمد البريكي تأتي هذه القصيدة كما أراها، ومن خلال متابعتي المستمرة منذ فترة طويلة لما ينشره صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، ضمن مشروع كتابي متخصص وبرؤية واضحة في القصائد الروحية التي تتميز بالعديد من الصفات والخصائص التي تجعلها فريدة ومختلفة، فهذا النوع من الشعر يلجأ إليه الشاعر؛ لينهل من معينه الصافي، وليكون إحدى الوسائل التي يعبر بها إلى النفوس، ويخاطب بها العقول ويأسر بها الشعور. وللقصيدة الروحية طعم مختلف تختص القلب النقي والنفس المتجلية التي ترتقي بأخلاقها وتعاملها البشري ليرسم الشاعر لروحه خطاً يعرج به إلى فضاءات بعيدة، ويحلق في سماوات فريدة، يقترب بها إلى منابع النور الإلهي، ليرفد نصه بأفكار ولغة تطير بأجنحة الحب، لترتقي إلى مقامات القرب من الخالق جل في علاه. لقد تجلت في ابتهال تسابيح سمات عديدة من سمات الشعر الصوفي، فقد بدأت بالتسبيح وهو ما يتفق مع النص القرآني وآياته العظيمة الدالة على أن الوجود كله يسبح لخالقه تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً، هذا التسبيح الذي يعدّ تنزيهاً للخالق عن النقائص يوحي بشكل فني في القصيدة بما أراده سموه من أن ما دون الخالق هو معرض للخطأ والنسيان والنقص، وهو اعتراف بشري ناتج عن إيمان عميق بصفات المعبود ونقائص العبد، ثم انتقل النص في سياقه إلى البدء بذكر اسم الخالق، وهذه المرحلة لم تأتِ اعتباطاً، وهي ميزة للعديد من القصائد التي تتسامى بالروح، ففي مثل هذه القصائد تتجلى النفس مع الشعر، وترتقي مستندة من خلال ترويض النفس وتطويعها لتكون تابعة لخالقها، ولذلك جاء ذكر اسم الله طلباً للتوفيق والبركة، والقصيدة هنا رسالة روحية سامية، وحين أرسل نبي الله سليمان رسالته إلى بلقيس بدأ كتابه بذكر اسم الله وهو ما بينته الآية الكريمة: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم. ألا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين. وتدرجت مراحل القصيدة لتصل إلى ملامسة صفات الاسم من خلال أسماء الموصوف، والتي كلها تحمل معها صفته - سبحانه - من خلال أسمائه الحسنى، فأتى على ذكر المجيد والعظيم والفرد والأحد الواحد السميع العليم، وهي نماذج كلها تصف عظمة الخالق ووحدانيته، وأنه هو المتصرف في كونه والرازق لعباده، ومرحلة الرزق لامست في سموه جانب الاعتراف بالفضل لصاحبه، فما تعيشه دولة الإمارات العربية المتحدة من نعم كثيرة وخيرات وفيرة مردها إلى المنعم الذي بشكره تزيد الخيرات، وبنكران فضله تحلّ الكوارث والنوائب والموبقات، ولذلك فحين يتطرق ولي الأمر إلى هذه القضية، فهو أكثر إدراكاً إلى أن النعم تحتاج إلى الشكر. اللافت في هذه القصيدة تسلسلها الروحي من خلال ذكر الله والاعتراف بصفاته، ثم ذكر فضله ونعمه، ومنها نعمة الهداية التي تجعل الحياة آمنة مستقرة خالية من المكدرات والمنغصات، لو اتبع البشر هذه الهداية حتى يلقى العبد ربه نقياً طاهراً بريئاً، وما أحوج البشر إلى مثل هذه القصائد التي تهذب النفس وتسمو بها إلى معارج القرب، وتتخذ من الدنيا مطية للوصول إلى الغاية الكبرى وهي رضا الله ونيل شفاعة رسوله. إن استمرارية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم مع الشعر ومحبته له، دليل على أن هذا الشعر له دور عظيم في المحافظة على اللغة والهوية والحضارة والإرث العربي العظيم، وهو نهج يضطلع به حكام دولة الإمارات العربية المتحدة، فهم يولون الشعر أهمية خاصة، ويجعلون له مكانة عظيمة، ويقدّرون الشاعر الحقيقي الذي يسهم من خلال شعره في طرح قضايا أمته التي تنشر رسالة المحبة والإنسانية والتصالح مع النفس والتسامح مع الآخرين. مدير بيت الشعر في الشارقة