×
محافظة المنطقة الشرقية

مصر تطرح مزايدة للتنقيب عن النفط قبل نهاية العام

صورة الخبر

الذكرى المئوية لمعركة فردان (1916) إشارة إلى أن عاملاً حاسماً غيَّر الذاكرة الوطنية الفرنسية تغييراً عميقاً. فتذكر فردان بقي في وجدان الفرنسيين إلى ستينات القرن الماضي، في مثابة عودة الأمة إلى نفسها، أي الى جماعة تتغذى لحمتها من آلام تقاسمتها، ومن إرادة مقاومة لا تلين. فمعركة فردان اختصرت كل الجنود الفرنسيين الذين قاتلوا للحؤول دون تصديع الألمان الجبهة والزحف نحو باريس: وفي نهاية المطاف :»لم يمروا». وطوال عام كامل، كابد الجنود الفرنسيون (الذين كسا الشعر وجوههم وعرفوا بشعورهم الكثة، «ليه بوالو») والألمان («فيلدغراو») آلاماً لا توصف في سلسلة عمليات هجومية ودفاعية، وتزاوج القتال القريب في أشرس أشكاله والقصف بمدافع من الأعيرة كلها، وذلك على نحو لم تختبره الحرب من قبل. وكان هذا جحيم فردان الذي خسر فيه الجيش الألماني 370 ألف رجل، لقي منهم 142 ألفاً حتفهم، والباقون إما جرحوا وإما فقدوا. وخسر الجيش الفرنسي 163 ألف قتيل بعضهم مات قتلاً، وبعضهم قضت عليه الغازات السامة أو سحق أو مُزِّق، فلم يبق منهم إلا مزق بشرية داستها أقدام زملائهم في مسيرهم إلى الموت. ولم يكن الجنود في خيرة من أمرهم: فهم اشتكوا سوقهم الى المسلخ ولكنهم مشوا الى الموت يحدوهم شعور بأن عليهم أن يقاتلوا هنا، وأن مصائر الحرب، أي الوطن، رهن قتالهم. ومرآة حالهم ما كتبه الماريشال بيتان في كتبه «معركة فردان» (1929):» عقدوا العزم على إنقاذ فردان (البلدة وقلعتها) وفرنسا، وتحملوا أعباء فوق طاقة البشر من غير شكوى. فهم استجابوا دعوة الواجب الصارم، ولم تخل استجابتهم من بعض التسليم. ولم تستخفهم الحماسة مقدار ما حزموا أمرهم، وكان معين قوتهم إرادتهم حماية أهاليهم وأرزاقهم من الغزاة». وولّدت التضحية، ومكابدة الآلام القصوى، أثراً ملحمياً عظيماً استعادته ثلاثة أجيال من الفرنسيين، هي الزمن الذي عاشه المحاربون القدامى وأولادهم. وتتمتع فردان بمكانة فريدة لا تنافسها عليها معارك أخرى. بعضها كان أكثر منها دموية، وبعض آخر لا يقل عنها دوراً استراتيجياً. فمن يذكر الاستبسال على نهر السوم، بضعة أشهر غداة فردان؟ وقلة قليلة من المؤرخين تناولت معركة السوم (التي قتل في اليوم الأول منها 20 ألف جندي). ووسم المؤرخ بيير ميكيل كتابه بعنوان «قتلى السوم المنسيون» (2001). ومن يحتفل بمئات الآلاف الذين قضوا على الجبهة الشرقية؟ أو قتلوا في ربيع 1918 الدامي في هجوم ميكاييل وفي معركة المارن الثانية؟ فما تعليل هذا الفرق؟ قد يكون العامل الأول تعمد القيادة استبدال الفرق «المحترقة» في جحيم فردان بفرق جديدة، عوض ترميمها أو استكمالها بتعزيزات محلية على ما صنع الألمان. وسمي الاستبدال سياسة «الناعورة». وعلى هذا، قاتلت في فردان 70 فرقة من الـ 100 فرقة التي كان الجيش الفرنسي يعدها في 1916. فاشتركت في المعركة أعلى نسبة من الجنود الفرنسيين. والعامل الثاني هو انفراد فردان، من كل معارك الحرب الأولى، بصفتها الفرنسية - الألمانية، واقتصارها على اقتتال الأمتين من غير مشاركة جنود من حلفاء الطرفين، على ما حصل في المعارك الكبيرة الأخرى (مثل معركة السوم التي شارك فيها الجيش البريطاني مشاركة حاسمة). وانتهت فردان في كانون الأول (ديسمبر) 1916 بإحراز الفرنسيين نصراً لا جدال فيه. واضطر الألمان الى الانتقال من الهجوم الى الدفاع، في اليوم الأول من تموز (يوليو)، حين شن الحلفاء هجومهم على نهر السوم. غير أن هذه العوامل لم تبدُ مؤثرة إلا على الأمد المتوسط، في أعقاب المعركة، بينما ارتفع نصب هذه منذ شباط (فبراير) - آذار (مارس) 1916، وكانت لا تزال في أوج استعارها. وخفي طبعاً على الفرنسيين وغيرهم المدة الطويلة التي دامتها من غير مشاركة حلفاء ولا توسل بنظام المداورة الجزئية. فصمت فردان المدوي ليس وليد الآلام القصوى التي كابدها المحاربون أو الشهادة التي اضطلعوا بها، بل تولى صوغ الأسطورة منذ بدايات الموقعة بعض أصحاب الأدوار الذين حملوا فردان على معنى الدفاع المستبسل عن الوطن. وبداية الأمر هي القرار بالدفاع عن فردان، مهما غلا الثمن، ويعود القرار إلى قادة الأركان، جوفروكا كاستيلنو، وإلى رئيس الوزارة أريستيد بريان. وبادر الألمان الى الهجوم في 21 شباط. فضباطهم حسِبوا ان الموضع نتوء يهدد مواصلاتهم، ويتيح للفرنسيين مهاجمة ميمنتهم وميسرتهم. وأحرز الألمان الذين حشدوا عدداً كبيراً من الجنود، وأعدوا العدة لهجومهم، نجاحاً جلياً، وتقدموا 6 كلم في 4 أيام، واحتلوا قلعة دُوومُون، وكانت لقمة سائغة من غير حماية. وفي 25 شباط كاد الفرنسيون أن يهزموا. ولو التزموا المنطق العسكري الخالص، لكان حرياً بهم إخلاء الضفة اليمنى من نهر المُوز الى ضفته اليسرى، المتصلة بخطوط إمداد قريبة. ولكن القرار بالدفاع عن فردان مهما غلا الثمن جعل منها رمزاً للمقاومة، وأرضاً مقدسة ينبغي ألا يطأها الألمان. وهو الشعار الذي رفعه أمر الجنرال نيفيل في 23 حزيران (يونيو):» لن يمروا»، وقبله أمر الجنرال جوفر في 11 آذار: «يا جنود الجيش في فردان!... عين الوطن ترنو إليكم، أنتم الذين يقال غداً فيهم: هؤلاء قطعوا الطريق الى فردان على الألمان». وقال بيتان في أمر اليوم، في 10 نيسان (أبريل):» الشرف للجيش الثاني!... اصمدوا أيها الشجعان، فلن ينجوا منا!». وتبدو هذه المقتطفات اليوم مفرطة النعرة الوطنية، وقبل 50 عاماً كان الفرنسيون يحفظونها عن ظهر قلب. ومذ ذاك ذاب شعار:» لن يمروا» في الصيغة الإسبانية «نو باساران» الذي شهرته دولويس («لا باسيوناريا») في وجه الفاشية، في 1936، ويدون غوغل استعادة حركات التحرر والانتفاضات كلها، ويوجز القول المكتوب على نصب الضفة الأخرى من نهر المُوز معنى الشعار:» لم يمروا». ومنذ 1916 توافد العسكريون والسياسيون على مثلث دوومون - فلوري - فو الرمزي. فعمد بيتان الى استضافة زواره من الوزراء والبرلمانيين والديبلوماسيين والصحافيين والأكاديميين الى مائدته في مقر قيادته القريبة من ميدان المعركة. وزار رئيس الجمهورية جوار الميدان 6 مرات في 1916، وقلّد المدينة وسام جوقة الشرف. وحصلت المدينة على 10 ميداليات أجنبية. وتحول ميدان المعركة محجة ومقصداً لملايين الفرنسيين. فزاروه أسراً، وتقدم الأسرة أولَ الأمر رجلها الذي حرص على إشهاد زوجته وأولاده على طريق جلجلته. ثم قدموا على شاكلة رحلات منظمة اضطلعت بها جمعيات من كل الأصناف. فلم يقفر الموضع، وأضفى التردد عليه قيمة رمزية متجددة. وفي الذكرى الخمسينية للمعركة، في 29 أيار (مايو) 1966، شرح ديغول (وهو قاتل في فردان وكان رئيس الجمهورية في الذكرى) دلالة النصب الأولى: «... يدرك الفرنسيون والفرنسيات الذين لا يحصون عدداً ولا ينفكون يترددون الى المكان والنصب، أن مصير بلدنا كله كان معلقاً على المعركة والنصر فيها... وتهز فكرة العمل التاريخي العظيم، وأثره في هذه البقعة من الأرض، مشاعر رجال ونساء كثيرين من أنحاء الأرض الى اليوم». وأدرج ديغول مأثرة بيتان في فردان من غير الرجوع عن إدانة تعاونه مع الاحتلال الألماني في 1940-1944. ولم يرَ الألمان في فردان، إلى أوائل العشرينات، معركة استثنائية. ولكنهم وسموها بسِمة سوداء. وفاقمت هذه السمة وثيقة منحولة، نشرت في 1919 ونسبت إلى رئيس الأركان إريك فون فالكنهاين، رفعها الجنرال إلى القيصر في كانون الأول (ديسمبر) 1915 وكتب فيها انه لا ينوي اختراق الجبهة في فردان، ولا الاستيلاء على المدينة، وغايته هي «نزف دماء الجيش الفرنسي». وأثارت الوثيقة المنحولة استياء عميقاً في صفوف المحاربين. فهم قيل لهم يومها إن القتال والتضحية العظيمين هما الفصل الأخير قبل الانتصار الحاسم في الحرب... ولم يحسبوا ان المعركة اقتصرت على «نزيف» سددوا ثمنه من دمائهم مقدار ما سدد الفرنسيون. وندّدت منشورات المحاربين القدامى الألمان بهذه الإستراتيجية المعقّدة والمواربة، وحمّلتها المسؤولية عن تضييع نصر كان في المتناول. وغذّت الوثيقة المنحولة ضغينة الجنود على الجنرالات «المتآمرين» وعلى «طبقة» الحكام المتخاذلين الذين طعنوا الشعب الألماني والوطن في «الظهر». وتوسّلت الدعوة النازية هذه المشاعر لتجييش جماهير العاطلين من العمل، والمسرَّحين، والمهزومين، والتائهين في مدن متداعية، على «النظام»، وتعبئتها في معركة الثأر». وبعد 10 أعوام على الحرب، تجددت ذكرى معاركها الكبيرة في ألمانيا. وتولى الأدب بلورة معانيها ودلالاتها. وكانت رواية إريك ماريا ريماك، «لا جديد على الجبهة الغربية» (1929)، باكورة هذا التناول. وتصدى روائيون يمينيون، على شاكلة بويمبيلبيرغ في كتابه «دوومون» (1928)، استثمار المعركة في شعارات ثأرية، وفي تمجيد ألمانيا «خالدة» على مر الزمن. ولا تنكر روايات بويمبيلبيرغ حقيقة الأجساد الممزقة والآلام التي لا تطاق، إلا انها تجعل منها ركن عقيدة فولاذية تمجد الإرادة العنيدة، وتنصّب خوذة الفولاذ الألمانية التي عممت على الجنود الألمان في معركة فردان، رمزاً لقوة تتعالى على الدمار والألم. في 22 أيلول (سبتمبر) 1984، دعا الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران المستشار الألماني هلموت كول إلى زيارة المقبرة الألمانية العسكرية في الأراضي الفرنسية، كونسيننوا، قبل زيارة مشتركة إلى دوومون، حيث المدافن العظيمة. وكانت الزيارة المشتركة الفصل الأول ربما من مواراة العصبيات القومية، وتواريخها المحمومة، ثرى أوروبا مشتركة.     * أستاذ شرف في جامعة ديسلدورف هينريش - هاينه، ** أستاذ شرف في جامعة باريس الأولى، عن «ليستوار» الفرنسية، 5/2016، إعداد منال نحاس.