يغدو ادعاء الإجماع القطعي في غير أصول الدين وقطعياته مستحيلاً، كما يغدو ادعاء الفهم الأصوب والإثبات الأرجح للسنة نسبياً بالضرورة. والنتيجة أن الاختلاف من وجهة من ينفيه ليس مع فهمه لنصوص الأدلة، بل مع النصوص نفسها يمكن للمرء أن يلاحظ في فورة السجال والاصطفاف التي أثارتها فتوى الشيخ صالح المغامسي بتحليل الموسيقى، حدثاً يتكرر من مبتدئه إلى منتهاه بالملامح نفسها. يبتدئ الحدث بإعلان أحد المهتمين بالعلوم الدينية ودراساتها، فتواه تجاه إحدى القضايا المختلف عليها، متخذاً جانب الإباحة واليسر والسعة في مقابل موقف التحريم والعسر والحرج، وجانب الجدة والواقعية والتفاعل مع الزمن في مقابل الرأي السائد المتعالي على الزمن والمتأبي على التغير والاختلاف. وفي كل الأحوال لا تبتدر هذه الفتوى قولاً لا سابقة له في التراث الفقهي، بل هي استعادة لمواقف اختلاف فقهي قديمة وحديثة، وهي مع رأي الجمهور أو مع الموقف الأكثر تمثلاً في حياة أكثر المسلمين. فتثور – من الخاصة والعامة - ثائرة الردود والتعليقات المضادة لهذه الفتوى، مخطِّئة إياها، وباحثة عن علل لإسقاطها، إلى درجة النيل من علم صاحبها واتهام نيته وأخلاقه أحياناً، وربما تهديده وفرض الصمت عليه تجاه موضوع فتواه، والقيام بترويج تسجيلات ومنشورات لفتاوى الرد عليه، أو للفتاوى المضادة لفتواه. وتمتد هذه الردود إلى المدافعين عن الفتوى وصاحبها، فينالهم من الهجوم والتحقير والاتهام ما نال صاحب الفتوى وزيادة. وكما استثارت الفتوى الردود المضادة لها فإنها تستثير ما يؤيدها ويباركها، لكن التأييد أكثر اتساعاً وحماساً لدى فئة المثقفين. وتنتهي فورة السجال بعد ذلك في انتظار تكرار آخر للحدث في الموضوع نفسه أو في موضوع آخر، وبالسيناريو ذاته. فليس هناك نهاية ينتهي إليها الحدث بالتسوية والاتفاق على رأي جديد، أو بقبول الاختلاف. حدث ذلك – مثلاً - حين قال الشيخ أحمد قاسم الغامدي بجواز كشف المرأة لوجهها أمام غير محارمها، وحين استُحضرت فتاوى متعددة لجواز قيادة المرأة للسيارة، وحين رأى الدكتور حمزة السالم أن الربا لا يجري في الأوراق النقدية. وفي موضوع الموسيقى وحده تكرر الحدث في المملكة بمراحله وملامحه الموصوفة أعلاه مرات عديدة، لخصتها جريدة الوطن في عددها الصادر في (1 /6 /2016) في تواريخ، أبرزها: حين أعلن رأيه بإباحتها أبوتراب الظاهري عام 1381، والشيخ علي الطنطاوي عام 1384، والشيخ محمد الغزالي عام 1409، والدكتور سالم الثقفي عام 1416، والشيخ عادل الكلباني عام 1431، وذلك قبل أن يتكرر الحدث بالتفاصيل نفسها في فتوى الشيخ المغامسي في الأسابيع القليلة الماضية. ولعله يحسن أن نلاحظ في أحداث الفتاوى المشار إليها، اجتماعها على رفع الحرج ومعارضة التحريم في الموضوعات التي اتخذتها موضوعاً لفتواها. وإلى ذلك قلّة عددها قياساً على أحداث فتاوى أخرى كانت بلا سجال وإثارة اصطفاف بين مؤيديها ومعارضيها في داخل المملكة، ولكنها تتميز عن تلك باجتماعها على التحريم وبكثرة موضوعاتها، مثل فتاوى: تحريم الشطرنج، والبوكيمون، والبلوت، والبنطلون، والكبك، والبلوتوث، وتقديم الزهور للمريض... الخ. هناك أكثر من دلالة في الوصف السابق، ولنبدأ بملمح العلاقة بين حدث الفتوى على ذلك النحو وبين دخول عامة الناس وخاصتهم في معارضتها أو الانتصار لها. من الواضح أن الصراع الذي تثيره الفتوى هو صراع سياسي في جوهره؛ بمعنى أن كل طرف من طرفي الصراع والسجال ينافس – بالتأييد أو المعارضة - على الانتصار لسلطة مرجعية، بصفة محددة، ويراهن على احتكارها للحقيقة وتمثيل الدين وقيادة الأمة والوطن دينياً، والحشد باتجاه ما يدعم ذلك الانتصار ويعمقه. ولكن موقف التأييد للسَّعة ورفع الحرج، كما هو – مثلاً - حال المؤيدين لإباحة الشيخ المغامسي للموسيقى، أو لرأي الغامدي في شكل الحجاب، أو لإباحة قيادة المرأة للسيارة، أبعد من الموقف المضاد لهم عن فرض الرأي الديني على الآخرين بالإكراه؛ فلِمَن يرى حرمة الموسيقى، أو عدم جواز كشف المرأة وجهها، أو قيادتها للسيارة، مِلء الاختيار والحرية فيما يرى، لكن على ألا يفرض ما يرى على غيره. وهذا يضفي على ملامح التضاد بين الموقفين اتساعاً يجاوز به الوقوف عند حل وحُرمة، إلى العلاقة بين موقف الفرض وموقف الاختيار، أو بعبارة أخرى بين فقه الرأي الواحد، وفقه الاختلاف. موقف الفرض والإكراه للآخرين، ليس فتوى؛ لأنه موقف سلطوي أمري، والفتوى بيان للحكم الديني من غير إلزام. وهو –إذًا- موقف ينفي الاختلاف، وهذا النفي للاختلاف الذي يضفي سلطوية على موقفه هو علة معارضته فتوى الإباحة للموسيقى وغيرها. ويتخذ نفي الاختلاف صورتين: إحداهما ادعاء الإجماع القطعي على التحريم، والأخرى ادعاء امتلاك الدليل وصحة الفهم له. والحال أن الاختلاف أمر واقعي وضروري، فأبوحامد الغزالي يتعجب ممن سأله عن قدرته أو غيره على رفع الاختلاف بين الناس، ويقول: "بل اختلاف الخلق في حكم ضروري أزلي". وعند الماوردي تعليل للاختلاف الفقهي في قوله: "كلام كل كتاب وأخبار كل نبي لا يخلو من احتمال تأويلات مختلفة؛ لأن ذلك موجود في الكلام بنفس طباعه"، وبالفعل فقد وقع اختلاف الفهم لنصوص الأدلة من الصحابة قبل غيرهم (كما في حديث لا يصلين العصر أحد منكم إلا في بني قريظة، وفي استصحاب عمر بن الخطاب لمقتضيات أخرى لفهم أحكام النص القرآني على غير ظاهره... إلخ). ويضيف الماوردي إلى هذه العلة تغير الوقائع "ولابد في الدين من وقوع الحوادث التي يحتاج إلى النظر فيها"، وتغير الوقائع يتضمن تغير أحوال البشر واتجاهاتهم ومصالحهم. وقد وقف ابن خلدون في مقدمته، على ضرورة وقوع الاختلاف من جهتين: اللغة فألفاظها تقتضي كثيراً الاختلاف في فهمها، واختلاف طرق ثبوت السنة واختلاف الترجيح في ذلك. ولذلك يغدو ادعاء الإجماع القطعي في غير أصول الدين وقطعياته مستحيلاً، كما يغدو ادعاء الفهم الأصوب والإثبات الأرجح للسنة نسبياً بالضرورة. والنتيجة –إذًا- أن الاختلاف من وجهة من ينفيه ليس مع فهمه لنصوص الأدلة، بل مع النصوص نفسها، فمذهبه وحده المطابق للنص. وهكذا لا تكون المشكلة في الاختلاف، بل في عدمه؛ إنها في التعصب الذي يصدع الوحدة، لأن الوحدة دوماً وحدة متعدد ومختلف لا واحد متطابق. وهذا يفضي بنا إلى استنتاج بشأن انفتاح الفتوى على آراء أكثر اعتدالاً، وهو دلالته على واقع يَجْرُؤ –وإن كان بشكل محدود- على تجريب أسئلة جديدة واستقلال في النظر.