يمكن اعتبار فيلم «الطفل الشيخ» ثالث الأعمال السينمائية للمخرج المغربي من الرعيل اﻷول، أو ما يصطلح عليه بالرواد، على رغم أن مسألة الريادة في السينما المغربية أمر لا يملك أية أهمية خاصة، بما أن اﻷعمال «البدائية» قليلة ومنحسرة. لكن حالة حميد بناني أنه كان وراء تجربة فيلم «وشمة» (1970) الذي يعد فيلماً مؤسساً لسينما مغربية أصيلة لا يزال الحلم بتواجدها رهين اﻷماني، بغض النظر عن تراكم الإنتاج وتنوعه حالياً. وربما أصابت «لعنة» ذلك الفيلم الطيبة والعفوية مخرجنا بعد ذلك، فقدم أعماﻻً أقل «ريادة» فنياً وموضوعاتياً، على غرار فيلمنا هذا الذي نقدم عنه هذه القراءة. عمق ثقافي وخفة تناول جاءت فكرة الشريط كما يقول مخرجه في حوار له منشور، بعد زيارة ثقافية قام بها رفقة علماء أنتروبولوجيا إلى المغرب الشرقي الجنوبي الجبلي - الصحراوي، فحصل لديه انبهار بالمنطقة وتاريخها القريب المعروف بمقاومة التدخل العسكري الفرنسي وبخاصة من خلال معركة «بوكافر» الشهيرة التي انتصر فيها المقاوم الكبير عسو أوبسلام زعيم قبائل آيت عطا على الجنرال الفرنسي المعروف بورنازيل ودحره مجبراً فرنسا على عقد السلم معه. وحميد بناني أراد أن ينقل ذلك في مسعى منه لتوثيق درامي لحقبة تحمل كل ما يمكن للسينما بالمقاييس اﻹنتاجية الكبيرة أن تحبه. وبالفعل، نشاهد تفاصيل دراما متخيلة تستوحي كل هذه الخلفية التاريخية. لكن النتيجة لم تكن أكثر من الحصول على دراما صغيرة وبمقاييس أقل. فلدينا البطل، وهو شاب مُقَدّر له أن يكون بطلاً، لكنه سيجد نفسه موزع اﻷهواء ما بين أماني المحتل في استمالته بسرابه الذي يشهر لمعاته أمام الأعين، وبين تلبية نداء المقاومة الذي يمثله عمه موحى. نراه منذ البداية في مواقف أقرب إلى أجواء الخرافة بكل ما تحمل الكلمة من معنى. ثم نراه وقد أصبح عرضة ﻷهواء متعددة من جهات مختلفة تتصارع وتتنافس في ما بينها. العوالم الخرافية تتبدى في شكلها البسيط جداً، أي بدون هدف واضح سينمائياً يمكن من الملامسة المباشرة، أو بدون معنى غير «تصوير» مرافق للأحداث، بدءاً باللباس البدوي المختار في أقبية المصممين المهووسين بكل ما هو تقليدي، ومروراً بالحلي والزوائد كالجراب واﻷسلحة الرجالية واﻷثاث والأواني، ثم الرؤوس معممة أو حليقة التي يتم التركيز عليها في لقطات كبرى، وأخيراً الحواري الطينية الضيقة والامتدادات من هضاب وجبال. ثم لدينا امرأة هي بنت حاكم القرية تتعهده بالتربية وبأكثر من ذلك، حيث تبني عليه أهواء غير معلنة للعموم وخارج عادات القرية، حميمية فيها إغواء وظفه الشريط في شكل واضح عبر لقطات حمام فيها عري وإيحاء بيّن، وهو مما يفرضه توالي الوقائع في منحاها الدرامي. لكن خارج سياقات نوايا الفيلم اﻷولى المرتبطة بالمقاومة والنضال التي تفترض معالجة في العمق والأفق بما لها من قوة اﻷسطورة المؤسسة للكثير من الملاحم المتخيلة وعدم الشط في حكي بعيد عن الموضوع. ويتأكد هذا أيضاً في لقطة نشاهد فيها النساء الخارجات للنضال بعد غياب وتغييب الرجال في اﻷعالي، وهي لقطة تقترب من المشاهد الغجرية بشعور النساء الحرائر المنفوشات والملابس المهلهلة المتروكة واﻷوشام المرسومة على وجوههن البعيدة كل البعد عن الوشم كما هو معروف في الجبل كتقليد عريق مميز للشخصية الحاملة له بصرف النظر عن صوابه أو خطئه. هذا باﻹضافة إلى الحوارات التي تظهر في مستوى لا يوافق أهواء الصور المشهدية التي تصبو إلى إغنائها بالدﻻلة. فقد بدت مفارقة وعادية على غرار قول أحد الشخصيات بأن اﻷمازيع أناس أحرار ﻻ يرضون بالذل والهوان، عوض أن يطفر ذلك من خلال الوقائع عفوياً وبطريقة سلسة. كل هذا ينم عن تناول يتعثر في التعامل مع مكوّن ثقافي، وبالتالي لا يدرك قوة معطى هام قابل للاشتغال سينمائيا إذ يكون المخرج قد تمثله في باطنه وفي ذهنه قبل أن يقدم على تطويره فنيا وإبداعيا. وهذا المعطى يذكرنا بتجارب سينمائية مشابهة مثل ما قامت به المخرجة نرجس النجار في فيلمها «الجبلي اﻷمازيغي» «دموع جافة» (2003) حيث تظهر المناظر واﻷشخاص كغجر وليس كحاملي مغايرة ثقافية غنية تثري التعدد الهوياتي والثقافي، كما تغني السينما بموضوعات قوية في توازن تام. ويمكن أن نقول بجلاء أن المخرج حميد بناني خريج الفلسفة ومدرسة باريس للسينما، خضع لجاذبية تيار فني سينمائي لم يغادر بعد لدى العديد من المخرجين، منطقة الموضة والتعامل مع المستجد السياسي والاجتماعي والثقافي بروية ومسافة نظر وتحليل، بل فقط كإعلان حضور وتسجيل مرور بحثاً عن ريادة ما أو التواجد في النقاش العام ولو على حساب اﻹبداع الحق المفكر فيه. مزج لم يجد سره ما نلاحظه هو تلاحق لمشاهد تتغيا أن ترقى نحو منحى تشويقي ما، يمزج ما بين حكاية فردية داخلية لأشخاص في بوتقة سكنية ضيقة خلف أسوار عظيمة تتنازعهم أهواء شخصية (الحب والغيرة واختلاف العواطف)، وحكاية خارجية جمعية تهم مجتمعاً بالكامل ممثلاً في قبيلة كبيرة ومؤثرة بحجم الوطن من خلال كفاحها (النضال والخيانة والأفكار التحررية المثالية وبذل النفس دفاعاً عن العرض). لكن المزج هذا شطّ بعيداً، فحصل التفارق بين الحكايتين، ذلك التفارق الذي لم يتمكن من منح الفيلم آلية تجعله ينطلق بحرفية متناغمة وعفوية ليصل نحو مبتغاه، من دون أي تنافر ولا هلهلة في السرد، وفيما يحايثه من نزوع نحو تبيان الحمولة الإنسانية التي تزخر بها مجموعة بشرية في لحظة تاريخية كبرى. ﻻ يترك الشريط سوى ذكرى حركة متأرجحة وكلام مرافق يستند على صورة طيبة بدون خرق منتظر، لم تجد ربما كامل السند حكائياً وإنتاجياً. والفيلم ينطرح كفيلم عابر، وهو جزء من فيلموغرافيا مغربية متكاثرة لن يصمد فيها إلا كفيلم في سنة.