المصري عرف بأنه ذو نفوذ واسع في صفوف القاعدة قبل هجمات 2001، كيف لا وهو صهر زعيم التنظيم أسامة بن لادن.العرب جابر بكر [نُشر في 2017/03/05، العدد: 10562، ص(7)]هل قتل لرفضه تشكيل قاعدة بلاد الشام من جديد باريس - عمامة حمراء قاتمة تتوج رأساً يمنياً سعيداً. سعيدٌ، أو هكذا بدا، بإقامته المريحة في ضيافة شعبة المخابرات العسكرية في الجمهورية العربية السورية ربيع العام 2002. يومها كان يمتطي أنبوب المياه العابر لفراغ غرفته ومن معه. ينشرُ الأغطية (البطانيات) التي تبين لاحقاً أنها قد غُسلت بآلة تنظيف أتوماتيكية أعطيت لهم. تفاجأ الرجل بالعيون ترقبه عبر النافذة الصغيرة، فهبط فوراً. بقيت الحيرة سيدة الموقف إلى أن نُقلت تلك العيون المراقبة إلى سجن صيدنايا العسكري حيث وصلت في صيف ذات العام نسخة من صحيفة “نيويورك تايمز-الإصدار العربي”. زُين وجه ذاك العدد بصورة أحد مدبري هجوم الحادي عشر من سبتمبر 2001 والذي استهدف الولايات المتحدة الأميركية في عُقر دارها. الصورة كانت لرجل بذات العمامة الحمراء القاتمة، يمنيٌ سعيدٌ آخر، ولكنه مجهول المُقام على أقل تقدير يومها. حملت الصحيفة في أحشائها تحقيقاً عن تلك الأحداث ضم معلومات عن اعتقال العشرات من قيادات وعناصر تنظيم القاعدة في أفغانستان وباكستان وزجهم في سجون شرق أوسطية مختلفة وفي سجون بلاد أخرى طبعاً. بمقاطعة المعلومات الواردة في التحقيق الصحافي وما تبعها من معلومات وبيانات ودراسات أدركت تلك العيون التي صدمت باليمني السعيد في فرع 248 التابع لشعبة المخابرات العسكرية أنها ألقت النظر على أحد سجناء تنظيم القاعدة الشهير والذين كانوا مسجلين بصفة إيداع لصالح المخابرات المركزية الأميركية سي آي إيه. وإذا عرف السبب بطل العجب من طريقة معاملتهم المتميزة حيث كان يناديهم السجانة والأطباء الذين يمرّون عليهم كل يوم بأسماء مرمّزة تتشكل من حرف ورقم دون أيّ إضافة أخرى. كانوا يحظون بالكثير من الحفاوة والاهتمام، ولم يدرك يومها صاحب تلك العيون، أنا، لماذا كل هذا الاهتمام؟ ولم كلّ تلك الحفاوة؟ لكنني استدركت ذلك لاحقاً. هم أوراق ثمينة يحق لهم ما لا يحق لغيرهم، صلاة جماعة وأضواء مريحة للعين وشراشف ووسائد وأغطية جيدة وغيرها الكثير. يحق لهم كل شيء إلا الاتصالات أو الكشف عن أسمائهم الصريحة. بقوا لدى الكثير من السجانة، ليس فقط المساجين، مجرد أرقام وأحرف. تدرك جنسياتهم من اللهجات إذا ما تباينت، فهذا مصري والثاني يمني والثالث خليجي أما الرابع فمغاربي. خدمة محاربة الإرهاب بُعيد تقارب النظام السوري من العالم الغربي ومحاولة تعويمه عام 2008، وقبلها طبعاً، ظهرت الكثير من الدراسات التي تتحدث عن الدور الفعال الذي قدمه جهاز المخابرات العسكرية السوري في خدمة محاربة “الإرهاب”، إن كان على صعيد المعلومات وإن كان على صُعد أخرى ليس أولها التعذيب للحصول على قضايا ولا آخرها استثمار اختراقات النظام لتلك الجماعات. ربما لم يحن الوقت للكشف العلني عن التعاون السري بين أجهزة المخابرات الأميركية وتلك الإيرانية في هذا الملف بالذات، ولكن الوقائع والتفاصيل تتشابه إلى حد يمكن لها أن تكون أدلة دامغة على دور الإيرانيين الواضح في عالم القاعدة والحركات الجهادية “السنية” اليوم ومن قبل. أبو الخير المصري يلقى مصرعه قبل أيام بصاروخ أطلقته طائرة من دون طيار أميركية وبذات الموقع تقريبا الذي قضى فيه قبله بأيام الشيخ هاني هيكل المكنى بـ"أبوهاني المصري". ومع نهاية العام الماضي قضى بطريقة مماثلة أيضا الشيخ أبوالفرج المصري الذي سمي قبلها كرجل ثان في "جبهة فتح الشام" بعد فك ارتباطها بالقاعدة كيف لا وإيران استضافت العشرات من قيادات القاعدة وعناصرها ومن بينهم أعضاء مجلس شورى التنظيم، وآخر هؤلاء الأعضاء كان عبدالله محمد رجب عبد الرحمن المُكنى بـ”أبوالخير المصري”. قضى المصري يوم الأحد 26 فبراير الماضي بصاروخ أطلقته طائرة من دون طيار أميركية وبذات الموقع تقريباً قضى قبله بأيام الشيخ هاني هيكل المُكنى بـ”أبوهاني المصري”. ومع نهاية العام الماضي قضى بطريقة مماثلة أيضا الشيخ أحمد سلامة مبروك المُكنى بـ”أبوالفرج المصري” الذي سمّي قبلها كرجل ثان في “جبهة فتح الشام” بعد فك ارتباطها بالقاعدة. ماذا يجري؟ إذا ما علمنا أنهم جميعا عبروا ذات الطريق التي عبرها المصري الأول. خرجوا من أفغانستان إلى إيران برفقة ثلة كبيرة من قيادات القاعدة ومنها، بعد مفاوضات أو في تبادل أسرى، وصلوا إلى سوريا حيث قضوا بالصواريخ الأميركية. كأننا نتابع ذاك الفيلم الرديء الذي يتحدث عن صائد البشر. يدفع ثمن سجين محكوم عليه بالإعدام ليطلق سراحه في غابة يتولى هو تعقبه فيها وقتله معتبراً هذا لعبة تسلية ومرح له ولأصدقائه. عائد إلى مصر بُعيد الثورة المصرية جرى الكلام عن عودة قياديين مصريين في تنظيم القاعدة من إيران إلى بلادهم على أمل المحاكمة العادلة هناك. لكن تسارع الأحداث غيّر المخطط. اتصل “أبوالخير المصري” في العديد من المرات بأخيه ليخبره عن الترتيبات ووُكّل محام لإدارة أوراق عائلته التي كانت سوف تسبقه إلى مصر. فشلت العودة وبقي المصري رهن الإيرانيين في معسكر اعتقال بمدينة شيراز وغيرها من المعسكرات. أطلق سراحه عام 2015، أي في ذات العام الذي دخل فيه سوريا. في سوريا بقي الرجل ملتزماً الصمت إن صح القول. لم يسجل أيّ ظهور علني باستثناء تسجيل صوتي بث في صيف العام 2016 أعلن فيه المصري إعطاء الضوء الأخضر لجبهة النصرة للانفكاك عن تنظيم القاعدة وتغيير اسمها إلى “جبهة فتح الشام”. شكره الجولاني على هذا الدور وصمت. بعدها تغيرت الأحداث كثيرا وساد الاقتتال بين قوات جهادية متعددة على الأرض السورية. اندمجت فتح الشام مع فصائل أخرى مؤسسين لـ “هيئة تحرير الشام”. اقتتلت الهيئة مع لواء جند الأقصى وبقي المصري صامتاً وبعيدا عن الأضواء. أُخرج المصري عن صمته بقتله على الطريقة الأميركية التي أصابت زميله اليمني ناصر الوحيشي النائب السابق لأيمن الظواهري والذي قضى بعملية مماثلة في العام 2015 ولكن في اليمن. ويومها قال فرع القاعدة هناك إن العملية كانت نتيجة خرق أمني كبير أدى لمقتل الوحيشي وعدد كبير آخر من عناصر وقيادات التنظيم في اليمن وذلك عن طريق عميل للمخابرات الأميركية داخل الجماعة. فهل اختُرقت الجماعة أميركياً في سوريا؟ أم أن المسألة أقل تكلفة هنا؟ ما الدور الإيراني في هذه الخروقات إذا كان جميع القتلى عبروا الأراضي الإيرانية سابقاً؟ ومن الذي أخبر عن مكان المصري في سوريا؟ لماذا كان في إيران؟ كيف وصل سوريا؟ أين أميركا منذ العام 2015؟ لماذا يقتل الرجل اليوم؟قياديون جهاديون مصريين في تنظيم القاعدة يدور الحديث منذ وقعت ثورة 25 يناير المصرية عن عودتهم من إيران إلى بلادهم على أمل المحاكمة العادلة هناك. لكن تسارع الأحداث غير المخطط ما دفع أبوالخير المصري للاتصال في العديد من المرات بأخيه ليخبره عن الترتيبات. لكن العودة فشلت وبقي المصري رهن الإيرانيين في معسكر اعتقال بشيراز أسئلة كثير لا تمكن الإجابة عنها إلا إذا كشفت فصول التعاون الاستخباراتي بين إيران وأميركا أو فصول التعاون “الإرهابي” بين إيران والقاعدة التي بقي عدد كبير من قياداتها في إقامة جبرية مريحة إلى حد معقول في تلك البلاد. وإن لم تُكشف فقد نحاول فهم الموقف عن كثب. لماذا إيران القصة الأميركية تقول إن طائرة من دون طيار قصفت سيارة مدنية بصاروخين فقتلت رجلاً مدنياً بحسب أهالي بلدة أريحا في ريف إدلب، كما قتلت آخر عرفنا لاحقاً أنه أبوالخير المصري والذي عرفه السوريون عندما ذكره زعيم ومؤسس تنظيم جبهة النصرة أبومحمد الجولاني في خطابه الذي أعلن فيه انفكاك النصرة عن تنظيم القاعدة بمباركة المصري. لكن ما لا نعلمه جيداً أن المصري يمتلك سجلا حافلا بالأعمال الجهادية. ولد عبدالله محمد رجب عبدالرحمن، أو أحمد حسن أبوالخير، أو أبوالخير المصري، وجميعها أسماؤه، في محافظة الشرقية في مصر عام 1958. انضم إلى التيار الجهادي أواخر السبعينات من القرن الماضي. التحق بمجموعة الظواهري في الثمانينات ليكون أحد المقربين من زعيم “جماعة الجهاد المصرية” خارج البلاد. انضمت الجماعة إلى تنظيم القاعدة وبقي المصري اليد اليمنى للظواهري خاصة في مجالي التنقل والدعم اللوجستي. اعتقل عام 2003 في إيران مع عدد من قيادات التنظيم. بقي في إيران حتى عام 2015 عندما جرت مبادلته ومن معه مع دبلوماسي إيراني كان قد اختطف من قبل فرع القاعدة اليمني. وصل بعدها إلى سوريا حيث التزم الصمت ورفض تشكيل أيّ فرع للقاعدة في بلاد الشام بعد انفكاك النصرة عنها. عرف المصري بأنه ذو نفوذ واسع في صفوف القاعدة قبل هجمات 2001، كيف لا وهو صهر زعيم التنظيم أسامة بن لادن. تعتقد الاستخبارات الأميركية أن المصري متورط في تفجيرات سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا عام 1998. لكن اللغز هو في الصمت الأميركي على بقاء المصري في إيران كل هذه السنوات. وهل صحيح أن واشنطن اكتفت بالمطالبة به ومن معه من قيادات التنظيم، وردت عليها إيران بالرفض، فقبل الأميركيون بالرفض الإيراني هكذا بكل بساطة. على أن القاعدة نعت المصري معلنة أنه “قتل في غارة أميركية صليبية غادرة”. وورد في بيان مشترك لـ”قاعدة الجهاد في جزيرة العرب” و”قاعدة الجهاد في بلاد المغرب الإسلامي” بعنوان “تعزية باستشهاد الشيخ القائد أبي الخير المصري” ما نصّه “لقد ارتقى البطل إثر غارة صليبية غادرة من طائرة مسيرة لتشهد أرض الشام جرما جديدا من جرائم أميركا والحلف الصليبي”. لكن السؤال يبقى مفتوحاً؛ لماذا اختار قياديو التنظيم وعائلاتهم إيران للفرار إليها؟ وما هو الدور الإيراني في هذا الملف المعقد والشائك إذا ما رصدنا توافد الكثير من عناصر التنظيم إلى سوريا عبر إيران منذ العام 2013؟ وهل كان رفض المصري تشكيل فرع قاعدة بلاد الشام السبب الرئيس في مقتله؟