هذا الكتاب موجّه - في تصور المؤلف - إلى أطراف ودوائر شتى يجمعها الاهتمام بالقارة الأفريقية، واقعاً ومشهداً ومستقبلاً ومصيراً، وهى أطراف تجمع ما بين الأكاديمي والباحث، وبين راسم السياسة وصانع القرار. وتدور مقولات الكتاب على محاور أساسية ثلاثة، هي: الحرب والتنمية والشباب، فيما تعد القارة الأفريقية مسرح هذه المحاور، في حال تشابكها وتفاعلها بالسلب والإيجاب. ويُحسب لمؤلف الكتاب، أنه جمع في مادته بين البحث العلمي والدراسة الميدانية، التي كانت أرجاء القارة السمراء ساحة لها، وخاصة المناطق التي عصفت بها الحروب الأهلية والصراعات الدموية الداخلية، بكل ما أسفرت عنه من آفات الدمار المادي، والتهميش الاجتماعي، الذي كانت أجيال الشباب الأفريقي أول ضحاياه. خاصة أن أفريقيا ما زالت تعد محظوظة، لاحتواء مجتمعاتها على أكبر نسبة من شباب الأجيال الطالعة، وهو ما يشكل وعْداً بانطلاقة مرجوة مستقبلاً في مجالات التنمية، بكل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية. ولكن بشرط أن يتم التعامل مع هذه الديناميات الشبابية الكامنة على نحو يستثمر طاقاتها، ويتعامل معها على أساس تكافؤ الجنسين، فضلاً عن ترشيد استثمار المعونات الخارجية الوافدة على القارة الأفريقية، سواء من أطراف دولية مانحة، أو من جانب المنظومة العالمية للأمم المتحدة. ما زال المصطلح المتعارف عليه منتشراً ورائجاً، بحيث تردده أقلام الكتاب وتحقيقات الإعلاميين، حين يعرضون لأحدث التطورات التي ما برحت تستجد على ما تعيشه من أوضاع، وما تعانيه من مشكلات أو تصادفه من عقبات. المصطلح هو عبارة تتألف من كلمتين: القارة.. العذراء. وبديهي أنها قارة أفريقيا، ثاني أكبر قارات عالمنا (بعد آسيا طبعاً)، وحاضنة اثنين من أهم أنهار الدنيا (النيل والكونغو). وكم حارت البرية، كما يقولون، بشأن جذور وأسباب هذه التسمية، وإن كان هناك من يعود بها إلى أن إمكانات القارة الأفريقية، لم يتم استغلالها بالكامل، سواء من حيث مساحات الأراضي الشاسعة الصالحة للزراعة، أو ركازات المعادن الجوهرية اللازمة لدوران عجلة التصنيع في العالم، أو من حيث الثغور والسواحل والمرافئ، ناهيك عن الإمكانات الحافلة من محروقات الوقود الأحفوري (البترول على وجه الخصوص). هذه الحقائق لا تزال تساق، رغم ما تعرضت له القارة السمراء من غوائل السيطرة الأجنبية والاستغلال الاقتصادي خلال المرحلة التي طالت عقوداً، بل قروناً من الزمن الحديث، وهى الحقبة الكولونيالية، التي ظهرت إرهاصاتها مع بدايات القرن السادس عشر، ولم تصل إلى خواتيمها إلا مع منتصف القرن العشرين، بل في عام 1960 على وجه الخصوص، وهو العام الذي لا يزال يعرف في حوليات السياسة الدولية، بأنه عام استقلال أفريقيا. عن مشكلة أفريقيا لكن مشكلة أفريقيا، تتمثل في أن هذه الفئة الشبابية الغالبة، ضمن جموع سكانها لا تزال تعيش وتعاني حالة من الإهمال والتهميش إلى حد بعيد. تلك هي المشكلة التي يعالجها الكتاب الذي نعايشه في هذه السطور، وقد اختار له مؤلفه عنواناً مطولاً، عمد إلى استهلاله بعبارة موجزة وبالغة الدلالة، في آن معاً: الأغلبية المنبوذة، بمعنى المعّرضة للإهمال والتهميش، برغم أهميتها الحيوية. على أن العنوان يمضي في معرض التفسير على النحو التالي: الحرب والتنمية والشباب في أفريقيا. مؤلف كتابنا هو البروفيسور مارك سومرز، وهو أكاديمي، اختار أن يتخصص في آفة الحروب وآثارها في التنمية عبر أقطار العالم، وبخاصة ما يتعلق من سلبية هذه الآثار على أجيال الشباب. منذ الصفحات الأولى من كتابنا، يطالعنا المؤلف بفكرة محورية بحق، يمكن تلخيصها كما يلي: ثمة مقولة خطيرة، ظلت سائدة في أفريقيا، وخاصة خلال السنوات الفاصلة بين نيْل الاستقلال (عام 1960)، وحتى مطالع القرن الواحد والعشرين، هي مقولة ظلت تتخلل الأوساط الحاكمة في طول القارة وعرضها، وتذهب إلى المساواة بين الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية، وبين السيطرة على جموع الشباب في هذا المجتمع أو ذاك. الجذور في حقبة الاستعمار هنا أيضاً، يؤصّل المؤلف جذور هذه الفكرة، حين يؤرخ لأصولها التي ترجع في رأيه إلى حقبة الاستعمار الأوروبي لأفريقيا، وفي سياقها، يوضح الدكتور سومرز، كيف كان القائمون على الإدارة الاستعمارية، يركّزون على جموع الشباب، الذكور بالذات، ممن كانوا يفرّون هرباً من قيود مجتمعاتهم التقليدية، التي كان يسودها حكم القبيلة، وسيطرة العشيرة، ومنهم من كان يتطلع للتخلص من ضوابط المجتمعات الريفية التي نشؤوا في كنفها. هنالك كان أرباب الاستعمار الحاكمون يعمدون إلى استغلال هذه الجموع الشبابية للعمل في المزارع الحديثة، لصالح الدوائر الإمبريالية بطبيعة الحال. هنالك أيضاً، عرفت تلك المجتمعات الأفريقية الواقعة تحت سيطرة الاستعمار، مصطلحاً كانوا يطلقونه على هذه النوعية من الشباب. والمصطلح هو: الوطنيون المنسلخون من القبيلة. وبديهي أن لفظ الوطنيون، كان ينصرف إلى معنى السكان الأصليين، دون أن ينصرف من قريب أو بعيد إلى أي شعور بالوطنية أو المواطنة، أو أي انحياز للوطن الرازح تحت نير الاحتلال. ثم جاءت الأنظمة الوطنية، التي ورثت حكم أفريقيا في مرحلة الاستقلال، حيث عمدت، كما يقول كتابنا، إلى تغيير التسمية السابقة، فأصبحت تصف المسألة بأنها طفرة الشباب. وما لبثت هذه الأنظمة الأفريقية، أن أعربت عن وساوس أو مخاوف إزاء هذه الجموع من الأجيال حديثة السن، لدرجة أن سادت هواجس تخشى من أن تصبح جموع الشباب الناشئ أقرب، من حيث طموحاتها وإحباطاتها وعوامل قلقها، إلى قنابل اجتماعية منذرة بالانفجار. الشباب يواجه المصاعب على الجانب المقابل للصورة، يؤكد المؤلف أن المسألة لا تتمثل في هذه الجموع من فئات الشباب الأفريقي، وأن المشكلة الحقيقية كما يقول المؤلف تتصل بأزمة هيكلية أعمق وأشد خطراً، وما برحت تصيب الكثير من المجتمعات في أفريقيا، وخاصة تلك التي مزقتها الصراعات الداخلية واكتوت، وبعضها لا يزال يكتوي بنيران الحروب: في هذه المجتمعات، بات شبابها يواجه مصاعب حياتية تزداد قسوتها يوماً بعد يوم، وخاصة من حيث محاولات هؤلاء الشباب التماس السبيل المفضي إلى كسب العيش وتكوين أسرة، والتطلع إلى نوع من الاستقرار، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. لكن الظروف ليست مواتية، بل مستحيلة في بعض الأحيان، وهو ما يوجد ظاهرة سلبية في هذا المجتمع الأفريقي أو ذاك، يصفها المؤلف بأنه ظاهرة الشباب شبه الدائم، حيث يتقدم العمر، ولمّا يحقق الشاب أو الشابة أياً من طموحات العمل المستقر أو الأسرة الصغيرة، أو الحلم المتواضع البسيط، وهو ما يؤدي إلى ما تصفه فصول كتابنا، بظاهرة آفة تحمل اسماً واحداً: التهميش. معونات التنمية بعد الصراع وحتى بعد أن تضع حمى الصراع الدموي المسلح أوزارها، يظل المشهد التراجيدي في البلد الأفريقي المعني، دون التغيير المطلوب، صحيح أن سكتت لغة السلاح، لكن الأصح أن المرحلة المستجدة، ويصفها الكتاب - اتّباعاً لمصطلح الأمم المتحدة - بأنها مرحلة بناء السلام في ما بعد النزاع، هي المرحلة التي لا يمكن مداواة جراحاتها من خلال الاقتصار على الجهود المحلية وحدها. المطلوب، كما يؤكد مؤلف كتابنا، هو التدخل البنّاء من جانب المجتمع العالمي والمنظومة الدولية، وهو ما يجب أن يتم كما يوضح المؤلف أيضاً - من خلال جهود التنمية في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية على السواء. في هذا السياق، يصل الكتاب إلى استعراض انتقادي لبرامج المعونات التي تقدَّم من جانب جهات مانحة في العالم، لصالح خطط التنمية، لما بعد النزاع في أفريقيا: يوضح هذا الاستعراض، كيف تتعرض أحوال ما بعد الصراع لتجاهل الآثار الناجمة عن هذا الصراع بالنسبة للمجتمعات والأفراد. وخاصة أجيال الشباب: ومن ذلك مثلاً، أن المقاتلين السابقين خلال الحروب الأهلية، سرعان ما يتم استخدامهم ضمن شلّة الهتّيفة، الذين يجوبون الشوارع، ويرفعون اللافتات، ويرددون الشعارات لحساب هذا السياسي أو ذلك، ممن يخططون لخوض الانتخابات، طمعاً في، أو طموحاً إلى، مقعد في البرلمان الوطني، بكل ما يرتبط بذلك من وجاهة ونفوذ وإمكانات. والحاصل، أن تأتى المعونات من الخارج، فلا تعمّ فوائدها جموع المحتاجين إليها، وفي مقدمهم أجيال الشباب الأفريقي، الذين اكتووا بنار الصراعات، ولكنهم لا يكادون يستفيدون مما تحفل به تلك المعونات من إمكانات وخبرات ومهارات، هي التي يمكن أن تعينهم على أن يطرقوا أبواب العمل واغتنام الفرص والانضمام الإيجابي إلى مسيرة مجتمع، يملكون بحكم عمرهم آفاق مستقبله. وبغير هذه الخطوات المطلوبة، يوجّه الكتاب تحذيراته التي تفيد بأن الشباب كفيل في حالة حرمانه من الفرصة، بأن يضع نفسه في خدمة المهرّبين، الذين تربطهم صلات وثيقة بشبكات الإجرام، التي عادة ما تتمتع بدورها، بإمكانات مالية وعلاقات مع الأطراف المؤثرة في الدولة والمجتمع. وهو ما يؤدى في نهاية المطاف إلى تحويل طاقة الشباب من إمكانية تضاف إلى مسيرة التنمية، إلى حواجز تحول دون استمرار هذه المسيرة، أو تعمد إلى تحويل المسار إلى حيث تحقق مصالح الأقلية المستغلِّة، وعلى حساب مصلحة المجاميع الحاشدة من أوسع قطاعات الجماهير. باختصار، يكثف المؤلف انتقاداته الموجهة إلى مجتمع المانحين، موضّحاً أن الإغراق في الجوانب التكنوقراطية النظرية، إنما يأتي على حساب التعرف الموضوعي إلى واقع المجتمعات الأفريقية، من حيث تركيبها السكاني، وقواها الفاعلة، وثقافاتها المحلية، وطبيعة أساليب الحوكمة التي تدير دفتها، فضلاً عن واقع التركيب والهيكل السكاني، وفي طليعته أجيال الشباب من ذكور وإناث. بغير ذلك، تظل أفريقيا قارة محسودة، لأنها لا تزال فتّية، بفضل ما تضمه من أجيال الشباب، فيما تظل قارة مظلومة، باعتبار أن هذا الجيل التعيس من الشباب، لا يزال فريسة للنبذ وللتهميش، كما يقول عنوان الكتاب. المعونات الخارجية هدر خطير يسوق المؤلف، الأمثلة على مصير المعونات الخارجية لأفريقيا، من واقع ما بعد الحرب في كل من أفغانستان والعراق، موضحاً ما شهدته هاتان الساحتان من إهدار خطير في الموارد والإمكانات، التي كان من المفروض أو المأمول تخصيصها لصالح بناء ما هدمته الأعمال الحربية. بينما كان المستفيد من هذا كله - حسبما يضيف المؤلف - هو شركات الأمن وعناصرها من المتعاقدين، كما يسميهم هذا الكتاب، ومعهم طغمة من العناصر المحلية التي شاركت في نهب الموارد واستغلال الإمكانات الوطنية. ثم تتطرق فصول الكتاب، إلى مؤسسة المعونة المقدمة إلى أقطار أفريقيا، وهو يتعامل أيضاً مع هذه المعونات الإنمائية من منظور التحليل الانتقادي، المستند - في تصورنا - إلى مشهد الأمر الواقع في القارة المذكورة. ومن أبعاد هذا التحليل، ما يمكن تلخيصه على النحو التالي: أن المعونة الواردة من الخارج، غالباً ما تتعامل مع فئة الشباب على أنهم ذكور. أما الإناث، فلا اهتمام إلا بما يوصف بأنه الطفلة الأنثى. هذه المعونات الخارجية كثيراً ما تصبح عرضة لمخططات وألاعيب السكان المحليين أنفسهم، الذين باتوا يعرفون أصول اللعبة، كما تقول مصطلحات الكتاب، السكان المحليون أصبحوا يعرفون ما الذي يريده الموظفون الأجانب، الذين وفدوا على بلادهم، وفي جعبتهم المعونات المقدمة من دول وجهات مانحة ومنظمات دولية، من هذه العناصر المحلية من عاش صراعات الحروب الأفريقية. وبعد انتهاء الصراع، تحولوا إلى مستفيدين، بل طامعين في ما تحتويه المعونات من إمكانات مالية وعينية، منهم من عمد إلى إنشاء جماعات نسائية مصطنعة، كما يصفها الكتاب، بحيثتنطق باسم النساء الأفريقيات، وتجني المغانم والمنافع باسمهن أيضاً، ومنهم من اختار أن ينسج روايات وحكايات عن الأطفال الجنود، الذين خضعوا للاستغلال من جانب فلول المتحاربين، وسواء كانت هذه القصص واقعية، أو من نسج الخيال، فالكل يكسب، والكل يستغل الظروف، والكل يبيع الحكاية، وينسج خيوطها كي توافق مزاج السيد الأجنبي، ثم يشتريها مانحون وصحافيون ومتبرعون. تأثيرات فادحة لتهميش الشباب تحت لظى آفة التهميش، شهد الهيكل الاجتماعي في بقاع أفريقيا، التي مزقتها الحروب، تحولات فادحة السلبية في مجتمع الشباب: من الشباب الذكور، من أصبح يتعيش من خلال استخدامه أو استغلاله في استخبارات الجيوش المتصارعة، أو في عمليات تهريب الأسلحة، أو حتى التجنيد ضمن صفوف المتحاربين. ومن الشباب الإناث، من تعرضن لضروب الإيذاء والاستغلال الجنسي، بل ومنهن من دفعت بها الظروف الفادحة إلى امتهان آفة البغاء، وهو ما شهدته أصقاع بوروندي مثلاً، في أعقاب كارثة المذابح التي حلّت بتلك الأرجاء من غرب أفريقيا في عقد التسعينيات من القرن العشرين. المؤلف يعد البروفيسور مارك سومرز، من أبرز الخبراء في قضايا الشباب . وخاصة ما يتعلق بأدوار ومعاناة شباب الجنسين، في الحروب التي رصد المؤلف مساراتها ونتائجها في أكثر من 21 بلداً. ويعمل الدكتور سومرز أستاذاً باحثاً زائراً في جامعة بوسطن بالولايات المتحدة. وقد أصدر عدة كتب في مقدمها كتابه عن أزمة شباب رواندا، ودراسته عن أوضاع جنوب السودان فضلاً عن كتابه الذي نال عنه أكثر من جائزة، واختار لموضوعه لاجئو بوروندي في حواضر تنزانيا. تأليف: مارك سومرز عرض ومناقشة: محمد الخولي الناشر: جامعة جورجيا، نيويورك، 2016 عدد الصفحات: 272 صفحة