عبدالله محمد النمير، ، من قرية قريبة من مدينة «الدويم» السودانية على ضفاف النيل الأبيض. قبل 15 عاما أقام في جدة قبل أن يعود نهائيا إلى وطنه على خلفية مأساة محزنة قتل فيها نجله «محمد» الذي يعمل في المهنة ذاتها.. هجم عليه أفريقي يدعى «الغالي» وأرداه قتيلا وهو نائم ! عاد العم عبدالله إلى موطنه الصغير يحمل ذكرى ذلك اليوم الأسود الذي فقد فيه ابنه في جريمة قتل مروعة. رجع إلى بيته الطيني البسيط، يكسب رزقه ويعتاش على عمل يده. في المقابل، ظل القاتل ينتظر لحظة القصاص لأكثر من 15 عاما، في الوقت الذي نشط فيه مدير فرع جمعية حقوق الإنسان في جدة صالح سرحان الغامدي في قيادة عملية بحث مضنية عن العم عبدالله لعتق رقبة سجين ظل في محبسه 15 عاما، إذ تحركت أسرة القاتل في كل مكان بحثا عن «أبو محمد» الراعي السوداني الذي خرج ولم يعد. البحث عن عبدالله أخيرا نجح مدير فرع حقوق الإنسان في مهمته، وعرف أن عبدالله محمد النمير الذي كان يعمل راعيا للغنم في جدة عاد واستقر في موطنه حاملا بين جوانحه أحزان مقتل ابنه، وقبل عودته النهائية كان الأب قد حضر أمام أمام المحكمة مطالبا بالقصاص من القاتل. في مطلع رمضان الماضي، وعقب تقاعده من لجنة الحماية الاجتماعية وانتقاله للعمل مديرا لجمعية حقوق الإنسان بجدة، عثر الغامدي على أوراق قضية القتيل السوداني «محمد» وبتفحص المستندات تبين أن أسرة السجين «الغالي» تطلب من الجمعية التدخل للوصول إلى أسرة القتيل لعلها تنجح في الحصول على عفو عن القاتل. وبدأت أولى محاولات الغامدي في التواصل الهاتفي مع العم عبدالله الذي لم يغب عن ذاكرته مشهد ابنه القتيل. السيف حاضر يروي الرجل قصة مقتل ابنه، ثم يكفكف دموعه: «تلقيت اتصالا من صالح الغامدي يطلب مني الحضور إلى جدة بصورة عاجلة، ويستسمحني في العفو عن قاتل ولدي، رفضت الأمر تماما فقال لي في الهاتف (إذن حضورك مهم إلى جدة لتشهد عملية القصاص، أنت تحت ضيافتي)، ترددت ورفضت العرض ومع إلحاحه وصلت إلى جدة لحضور لحظة الحسم». قبل ثلاثة أشهر وصل العم عبدالله إلى جدة مزودا بالتوكيلات اللازمة، وكان في استقباله في المطار مدير فرع جمعية حقوق الإنسان صالح الغامدي، «فتح لي بيته وتحمل نفقات تنقلاتي من جيبه، وفجأة طلب مني التفكير العميق في أمر العفو.. وإلا فالسيف حاضر». أصر أبو القتيل على موقفه، وطلب منه مراجعة المحكمة للاطلاع على أوراق القضية، وقدم رئيس المحكمة الشيخ عبدالرحمن الحسيني تسهيلات كبيرة في هذا الشأن. «ما عاد تجي» «أبلغني الغامدي أن فاعل خير حرر شيكا في المحكمة باسمي بمبلغ ٣٠٠ ألف ريال مقابل التنازل عن القصاص من القاتل، غير أنني رفضت العرض وهاتفت زوجتي أم محمد في السودان أسألها وأستشيرها، لم أشك لحظة أنها ستقبل بالمال مقابل العفو، فجاء الرد الشافي من الأم التي رفضت التنازل عن القاتل بأي مقابل مادي وزادت باللهجة السودانية (لو رجعت بأي ريال من السعودية.. ما عاد تجي البيت)!». لم تخذله أم محمد، إذ اتخذت قراره ذاته، ونقل أبو محمد قرارهما إلى الوسيط الغامدي. «تنازلنا عن قاتل ابننا بلا مقابل»، مؤكدا أنه لن يتسلم ريالا واحدا مقابل عفوه غير المشروط، حاولوا إقناعه مرارا أن الشيك تم تحريره، وأنهم بانتظار كلمة منه لتسليمه مبلغ الـ300 ألف ريال، وأن المبلغ سيكون معينا له وزوجته في حياتهما الصعبة والفقيرة، فأجاب بأنه يريد الأجر صافيا خالصا لوجه الله، وإن كان فاعل الخير الذي تكفل بالمبلغ يبتغي الأجر والثواب، فهو أيضا ساع إلى الأجر والثواب فهو أولى بالأجر. لقاء مع السجين القاتل في اليوم التالي جرت الترتيبات بمتابعة من «عكاظ» ورئيس المحكمة العامة، حيث انعقدت جلسة قضائية من ثلاثة قضاة تم فيها توثيق التنازل عن القصاص بشهادة اثنين. ورفض العم عبدالله مجددا الحصول على أي مبلغ مقابل تنازله، معربا عن شكره وتقديره لكل من أسهم في الخير. لم يكتف العم عبدالله بذلك بل قرر زيارة القاتل في سجنه برفقة صالح الغامدي، والتقيا مدير السجن، ولم يجد السجين «الغالي» الذي دخل السجن في الثلاثين من عمره وعبر الآن سقف الخمسة والأربعين، غير الدموع ليرد بها جميل من أنقذ عنقه من حد السيف.