بحت أصواتنا ووهن سعينا الدؤوب، وهرمت حبالنا الصوتية، ونحن نطالب بتقشير لفائف التاريخ والنبش عما تستبطنه أرضنا، من ثوابت تاريخية وثقافية وحضارات إنسانية، وعوالم بائدة وآثار استيطانية، وعمارات تقليدية ورسوم ونقوش صخرية، وطرق تجارية ومواقع إسلامية وقرى أثرية، تحتاج إلى كشوفات علمية ومسوح ميدانية وفرق عمل بحثية، قبل أن تصبح ضحية للتعابث وفريسة لمخالب الضياع، وعنوانا للإتلاف والخراب والدمار والنفي القسري والامحاء والخسارات الكبرى، يقول الدكتور (مسفر بن سعد الخثعمي) أستاذ التاريخ القديم: (الآثار هي التعبير المادي الحي عن الشخصية الوطنية للشعوب، وهي الشاهد الصادق على حضارة أصحابها، فهي تكشف لنا مدى التقدم أو مدى البداوة في إنتاجهم، ومدى الثراء أو الفقر في إمكانياتهم، ومدى الأصالة أو مدى التقليد في صناعاتهم ومدى التأثر أو مدى التأثير بين حضارتهم وحضارات جيرانهم، كما أنها تعبر عن كياناتهم وذواتهم وتطلعاتهم، وهي في الوقت ذاته قيمة حضارية تربط أهلها بالإنسانية جمعاء). وقد أكد ما ذهبتُ إليه من عجزنا على الحفاظ على آثارنا كمعطى إنساني، ومظلة تاريخية وذاكرة جمعية ما قاله (زاهي حواس) وزير الدولة السابق لشؤون الآثار المصرية، وأشهر علماء المصريات، من أن السعودية استنزفت آثارها تحت وطأة عوامل كثيرة، منها: (الجهل بأهمية التراث، وعبث الرحالة والمستشرقين، وقسوة المناخ والتوسع العمراني والصناعي). ويذكر حواس أن (متاحف العالم تضم آلاف القطع المنقولة، التي خرجت من أرض الجزيرة العربية، واستمرار هذا النزيف يهدد بفناء التراث الأثري السعودي). أحدثكم وأنا عائد من وادي (عياء) الذي أعيا المؤرخين والباحثين، فعجزوا عن كشف غوامضه المغيبة، وأسراره المستقرة في باطنه، وحفرياته وشواهده وطرازات مكنوناته المادية المغايرة، ومنعطفاته التاريخية والاجتماعية، فالوادي يقع في منطقة عسير في بلاد (الحجر) سكنه (الأواس بن الحجر) قوم الشنفرى الشاعر الجاهلي المعروف، وهو بعيد (أي الوادي) عن مراكز الاستيطان البشري، كما يقول الدكتور (الخثعمي) يضرب بجذوره في أعماق التاريخ، ويمتد إلى فترة ما قبل الإسلام، تعرض كما يبدو إلى سيول مدمرة، كانت السبب في هجرة أهله، ومن أبرز آثاره القصور والحصون الحربية، والمقابر المبنية فوق سطح الأرض، وتتكون من طابقين إلى ثلاثة طوابق، وآثار بعض المنشآت الاقتصادية كالآبار المطوية والأسوار الزراعية، يسترعي انتباه الزائر للوادي مشهد القبور واتجاهها على غير اتجاه القبلة، وبعضها متجه نحو بيت المقدس. إن وادي (عياء) بحاجة إلى التنقيب الأثري، لكشف اللبس والغموض الذي يحيط بتاريخ وحضارة هذا الموقع.