دخلت المراثي كغرض من أغراض الشعر العربي الرئيس، إذ تمثل حالة خاصة تحمل المشاعر الصادقة للشاعر بعيدا عن قصائد المدح أو الهجاء. واحتلت المراثي حيزا كبيرا لدى النقاد بالمتابعة والتصنيف، وجعلت بعض القصائد في مقدمة مختارات الشعر، ودخل إلى عرصات هذا النوع من الشعر كبار الشعراء. ولأن هذا النوع من الشعر يقال في مناسبة حزينة تكسر فيها النفس لفقد أحد الغالين من الأبناء إو الإخوان فيكون الرثاء مقابلا وجدانيا لما تم فقده. وقد قيل الكثير عن هذه المراثي، وأخذت مواقع الاستحضار في ذاكرة الناس حتى إذا ما حدث فقد لأي إنسان تمثل بها لتخفيف عن ضائقة النفس وما يجد من حرقة ولهفة على من رحل عنه. وقد صدق الإعرابي الذي سجل الجاحظ مقولته عن هذا النوع من الشعر فقد (قيل لإعرابي: ما بال المراثي أجود أشعاركم؟ قال: لأنا نقول وأكبادنا تحترق). وجميع مراثي الشعراء الكبار لم يتم تحميلها تحميلا يفسد روعتها؛ لأن أي مخالطة طارئة كمن يخلط اللبن بالماء وفي هذا الفعل إفساد للقصيدة واستخفاف بحالة الحزن المهيبة وتحويلها من غرض التنفيس عن النفس المكلومة إلى عظة فجة يكون الباث لقولها حقدا أو انتقاما أو أي صفة ذميمة تُلحق اللوم على المتوفي، وكأن قائل القصيدة هو من فعل الموت تشفيا في غالٍ. وفي الآونة الأخيرة اشتهرت القصيدة التالية أيما شهرة بسبب التعليق عليها بأنها جازت عقوق ابن بالموت. أدق لي رقـــمٍ وراعـــيه مدفــــون حسبــت جـــواله لــيا دق يوحــيه ما أقول لا صاحي ولا أقول مجنون أقول ملهـــوفٍ على صوت راعيـه ومن يقول هذا تنقصه مشاعر الأبوة، هذه القصيدة قيلت من كبد محروقة على رحيل ولده، لكن تم إفسادها بتحميلها وعظا ألحق الأذى بالميت وبمن قالها. ومشكلة أي قصيدة تنتشر بين الناس اهتمامهم بأسباب إنشادها شعرا أن يتحول السبب إلى متن، وتغدو القصيدة هامشا. وعندما انتشرت هذه القصيدة تناقل الناس القصة الخلفية عن سبب قولها، بينما القصيدة ذاتها تحولت إلى شرح السبب، وهذه معضلة أخلاقية قبل أن تكون معضلة فنية. وما يثار الآن عن استغلال القصيدة لغرض وعظي ربما ينجيها مما لحق بها من ماء أفسد طبيعتها وحولها من لبن خالص إلى ماء معكر.