كان صوت أمي يلح عليّ أن أفتح باب الحجرة لكي تنظفها كما ادعت ولكنني رفضت بشدة. لا أريد أن أرى وجه أحد، ثم إنني لا أريد أن ارتدي ملابس فوق قميص النوم الأحمر الذي كاد أن يلتصق بجلدي، فمنذ عدت من الدير وأنا أخشى الشماتة والألسن النارية للأقارب والعيون الشوكية للجيران. لقد حاقت بي آثامي ولا أستطيع أن أبصر أكثر من شعر رأسي الجاف وقلبي قد تركني. كل شيء في تحول إلى أبجدية للفشل تتكون من مليون حرف. دمامة من الألف إلى الياء وفقر من مليار إلى مليون تحت الصفر. شعري كنبات الحلفا الشيطاني وعيناي أضيق من حظي في الحياة. شفتان عريضتان بعرض المر في حلقي وأنف أفطس أكبر من حقدي على «ماري» زوجة ابن خالتي القس الوقور. جسد كليف النخيل لم تجد الطبيعة أي رمز أو غصن أو ورق أنثوي تعطيه لي. ودق باب الحجرة من جديد مصحوباً بصوت أختي الصغيرة «دينا» التي ولدت يوم توفي أبي: أونكل سامي. لا... يوه... أبونا يوسف عندنا وعاوز يكلمك يا أميمة! لم أره يوم تزوج ولم أحضر سيامته ولا أريد أن أراه ولكنني قمت وارتديت جلباباً وفتحت الباب. سلمت عليه من دون أن أقبّل يده وأخذت أتأمل وجهه بعد أن أضافت إليه اللحية والحلة السوداء الكثير: شكلك لذيذ في الملابس الكهنوتية. مبروك النعمة. قال في تحدٍ: أشكرك. وكانت «دينا» قد أحضرت له كرسياً فجلس عليه وجلست أنا على طرف السرير بجوار عدد من الكتب التي أخرجتها من «شنطة السفر» ولم أضعها في المكتبة، ورأيت عينيه تتجهان نحو كتابي «بستان الرهبان لآباء الكنيسة المصرية»، و «حياة الصلاة لأبونا متى المسكين»، ثم قال في شبه سخرية كنت أنتظرها: كنت ستصبحين أمّنا الراهبة. ولم استطع أن أكتم غيظي: حال الدير لم يعجبني. ولكنه كشف كذبتي: الرهبنة ليست هروباً من المشاكل. نكست رأسي وتمتمت: كنت أريد أن أهرب منك بأي وسيلة. لست آخر رجل في العالم. ولماذا لم أكن أنا زوجتك يا ابن خالتي العزيز؟ لم يرد، فانطلقت نار بخل وكبريت من شوك. دعني أجيب عنك يا أبي القس: لقد تركتني لأنني دميمة. فانتصب واقفاً: كلا. ولم أعطه فرصة: بل هذه هي الحقيقة، ولا أظنك وأنت الآن كاهن ستجاري المثل الذي يردده كل الرجال ولا يقيمون له وزناً «الجمال مش بالشكل». أنتم ترسمون صور القديسات جميلات. جميلات جداً وكأنه شرط للقداسة وتعلّمون الأطفال تلك الحكايات الغبية عن السندريلا الجميلة جداً ليتحول جمال الشكل في أذهانهم إلى مقياس للخير والشر. أنت نفسك سيطرت على أعماقك هذه الحكاية، لذلك أصبحت في صراع داخلي. أذكر أنني في كل مرة أحصد فيها جوائز مسابقات المطرانية الشهرية والصيفية تأتي وتقترب وتشجعني على القراءة والثقافة، وكنت أدرك أنها ميزتي الكبرى التي أستطيع أن أباري بها أي فتاة جميلة، ولذلك أضع مجموعة من الكتب في شنطة يدي بدلاً من البودرة والأحمر والماسكارا، ولكن عندما كانت تأتي «ماري» أراك وقد انتقلت إليها حساً وسمعاً وخشوعاً. آه طبعاً فـ «ماري» ذات جمال خارق وهي التي لعبت كل أدوار القديسات في المسرحيات الموسمية التي يقدمها المسرح القبطي، فشعرها نهر وعيناها خمر. لا. لا. بل ينطبق عليها تماماً وصف هيروديا في مسرحية «سالومي» التي قدمتها العام الماضي: شعر أصفر منسدل فوق الظهر كأنه ستارة من خيوط العسجد. عينان زرقاوان ياقوتتان نادرتان. شفتان كالعقيق تقطران شهداً خالصاً. وجه له شعاع البدر. رقبة أشف من رائق البلور. قامة معتدلة كأنها عمود من رخام. ساقان رشيقتان كأنهما عاج مخروط... هل أصف لك زوجتك التي تحسدك «الإيبارشية» كلها عليها؟ كان يضرب بالصليب الخشب على ركبته وخشيت أن يكون في عالم آخر، ثم دخلت أمي بصينية الشاي. قدمتها وأسرعت ظناً منها أنني أعترف له. أبونا يوسف. فنظر إليّ وظن أن دوره جاء ليتكلم ولكنني أكملت وكأنني مخنوقة بيد من الكبت يرفعه البوح الحاد عن رقبتي. ما الذي جعلني لا أصلح لك؟ هي تحمل مؤهلاً عالياً وأنا كذلك. ثقافتي الدينية أفضل منها بمراحل. أتذكُر يوم نسيت دورها في مسرحية «القديسة دميانة»، وتذكُر المرة التي نسبت قول يوحنا الحبيب فيها الى بولس الرسول؟ ولكنك أردت امرأة تباهي بها الجميع تليق في الهيئة الاجتماعية بشكل زوجة الكاهن. وقد يكون الراهب «أثناسيوس» هو الذي حسم الصراع، فقد قال لوجدي قبل أن يتزوج: لا بد من أن تكون زوجتك جميلة تملأ عينك لئلا تشتهي أخرى! هل تعلم ماذا شعرت يوم اكتشفت رئيسة الدير سبب دخولي الرهبنة وأصرت على أن أعود إلى العالم؟ لقد شعرت أن ليس لي مكان على الأرض ولا في السماء. أردت أن أسكن في نجمة وأحترق معها لعل نارها تطبخني من جديد أنثى جميلة، ولم تكن أنت السبب الوحيد. أمي أيضاً بأمثالها البالية التي تحرق أذني ليل نهار: «لا تقلقي، ربنا بيحلي المصيبة في وش صاحبها»... «كل فولة مسوسة ولها كيال أعمى». قاطعني في عنف: «داود النبي بيقول الجمال كعشب السطح ثم إنني لم أعدك بشيء ولم أصرح بحبك أبداً». و «لكنك لمّحت وأنا أحببتك ليس ذنبي وهل هي جريمتي أنا؟». وقال بصوت حنون: «أميمة، افهمي لقد تحولت إلى «أب» وهذا يعني أن جميع البنات بمثابة بناتي فاسمعي يا ابنتي!». - ابنتك! هكذا بكل سهولة تحولت الى ابنتك كما تحولت أنت من سامي إلى القس الأب يوسف. هل أتمكن بهذه السهولة من أن أنزعك من دمي وكيف لي أن أخرجك منه حبة حبة؟ كيف لي أن أبتر الخلايا التي تسكنها وأحرق روحي بمشعل من فحم قديم وقف مستعداً للانصراف. بالصلاة والصوم؟ الشياطين فقط هي التي تخرج بالصوم والصلاة وليس «الحب»... تريد أن اعترف يا أبي: أنت «خطيئتي» الكبرى جعلتني أكره ملامحي، سامحك الله.