قد يتبادر إلى أذهانكم أني سأحدثكم عن كاتبات اليوم، إن سلبا أو إيجابا، لكن هذا الظن منكم غير صحيح، فمن أنوي الحديث عنهن لسن بنات هذا العصر وإنما جداتهن. كما أن نوع الكتابة التي أعنيها مختلف عما تفعله حاليا الحفيدات. صفة الكتابة في هذا العصر، تمثل عملا حرا يعبر من خلاله الكاتب عن أفكاره الخاصة وليس أفكار أحد غيره، أما صفة الكتابة في الزمن الماضي فقد كانت مهنة يتكسب بها صاحبها، فعمل الكاتب آنذاك أقرب إلى (السكرتارية) حيث يكون الكاتب موظفا ملزما بالكتابة وفق ما يحتاج إليه صاحب العمل الذي يعمل عنده، فهو لا يعبر عن أفكاره الخاصة وليس حرا في اختيار ما يكتب عنه. منذ بدايات عصور الازدهار عند المسلمين، اعتاد خلفاؤهم اتخاذ كتاب يعدون لهم الرسائل والمكاتبات الرسمية، يختارونهم من بين أفضل الأدباء الضليعين في المعرفة اللغوية والأدبية، وما أظن أحدا منكم لم يمر عليه أثناء الدراسة في المرحلة الثانوية، اسم عبدالحميد الكاتب، الذي يمثل أشهر الكتاب في العصر الأموي، اتخذه الخليفة مروان بن محمد كاتبا له لما رأى من تميزه في هذا الفن. فعبدالحميد يعد أول من استن للكتابة الأصول والقواعد، ثم تبعه في ذلك بقية الكتاب، ولذلك وصفه مؤرخو الأدب بإمام هذه الصناعة. ومثله أيضا ابن العميد في العصر العباسي الذي كان وزيرا لآل بويه، وغيرهم كثيرون ممن تشير إليهم كتب الأدب التي تدرس في المدارس. ولكن هل يذكر أحد منكم أنه سبق أن درس له اسم امرأة كاتبة من بين أولئك الذين يقومون بمهمة الكتابة للخلفاء؟ حسب ما أعرف فإن الكتب التي تدرس في المدارس تخلو تماما من الإشارة إلى شيء من ذلك، لكن خلو تلك الكتب من الإشارة إلى أسماء النساء الكاتبات لا يعني اختفاءهن من ذاكرة التاريخ، ولا يمكن له محو حقيقة وجودهن في وقت من الأوقات. في كتاب (الذيل والتكملة) يورد المؤلف ذكر ثلاث من الكاتبات اللاتي كن يعملن لدى الخليفة الأندلسي عبدالرحمن الناصر، وقد وصفهن بالفهم والحذق، وفي كتاب الصلة، يذكر ابن بشكوال اسم الكاتبة (لبنى) التي يصفها بأنها خطاطة بارعة حاذقة بالكتابة، والنحو والعروض، وكانت تكتب للخليفة الحكم المستنصر بالله في القرن الرابع الهجري. أما في عهد الخليفة المؤيد بالله فقد تولت الكتابة له امرأة اسمها (نظام) وتصفها المؤلفات بالبلاغة وحسن الإدراك، وهي التي كتبت للحاجب المنصور بن أبي عامر خطاب تولية الحجابة من بعده لابنه، مما يدل على ثقة بن أبي عامر بقدرتها البلاغية وتمكنها من إنجاز تلك المهمة بجودة عالية. في تاريخ المسلمين هناك أسماء كثيرة لنساء مبرزات في مجالات متنوعة، لكنها مطمورة بين صفحات الكتب، وقد حان الوقت للنبش عنها وإيفائها ما تستحق من إحياء الذكر.