في الثلاثين عاما الأخيرة، عرف القارئ العربي الأدب التركي الحديث مترجما إلي العربية، مقدما إبداعه في النثر والشعر، وكتب الفكر المختلفة! كان الشاعر الكبير ناظم حكمت واحدا ممن نبهنا إلي جدوى الشعر التركي في الستينات حيث كان التجريب يلازم الثورة، ورغبة الكتابة في تحقيق حلم تغيير العالم. كان "يشار كمال" "واورهان ولي" وغيرهما يحملون رسالة هذا الأدب الحديث منارة من الشرق إلي العالم. أوائل التسعينات تعرفنا علي صاحب نوبل، "اورهان باموق"، الذي باشر العالم ترجمة أعماله، ملفتا إليه الأنظار كموهبة استثنائية، تستمد إبداعها من أكثر قضايا الوجود الإنساني عمقا، ووصفته حينئذ الصحافة العالمية "اورهان باموق" روائي تركي شاب يعلم أوربا كيف تكون الرواية. وأضافت تلك الصحافة "صاحب الخيال الأكمل الذي شهدته المكتبات". لا ينسي قارئ الأدب القيمة الجمالية الكبري لروايته المهمة "اسمي احمر"، ذلك النص المبهر في اكتماله، والذي يعد من فرائد النصوص التي تعاملت مع تراثنا الشرقي، في جدله المستمر مع حضارة الآخر! في وقتنا الراهن، يترجم إلي لغتنا، أعمال كاتبة تركية تعتبر أيضا، إضافة مهمة إلي الخيال الإنساني، التي تسمو به إلي مناطق جديدة، وتحققه بامتياز في أعمال تكشف الكاتبة عبرها، ذلك العالم الذي قال عنه الصوفي الكبير "شمس التبريزي" "رأيت إسرار العالمين العلوي والسفلي. ظننت أن جميع الرجال رأوا ما رايته لكن سرعان ما أدركت أنهم لم يروا..." "شافاق" كاتبه شابه، وجميلة أيضا. هي من مواليد 1971، ببراعة وسابق خبرة، تكتب باللغتين، التركية والانجليزية، أبدعت بهما ثمان روايات وكتب أخري" ترجمت بعض أعمالها إلي ثلاثين لغة، وهي ماتزال بعد شابه! عاشت حياة صعبة علي نحو مؤلم في طفولتها، فلقد انفصل والدها عن أمها وهي بعد رضيعة، وعندما اشتد عودها، اعتمدت علي نفسها في تصريف أمور حياتها. وهي تعيش في كنف أم، تقضي حياتها في البلاد الغريبة.. قالت مرة: "وفي ظل غياب الأب، وعدم ترعرعها في كنف عائلة بطريركية نموذجية، كان ذلك عاملا مهما، طبع عميقاً كتابتي وحياتي" عاشت "شافاق" في "ستراسبورج" بفرنسا، تهتم بثقافة وطنها وتتعرف علي ثقافة الآخر، وهذا المنحي طبع أعمال هذه الروائية، وهيأها لخلق هذا الجوار بين الثقافات الإنسانية. كما اهتمت "شافاق" بالتصوف عند المسلمين واليهود، وأصدرت العديد من الروايات تحمل رؤي جديدة في تناول الحقائق الإنسانية، والوقائع المختلفة في الثقافات. أصدرت الكاتبة العديد من الروايات التي تتسم بالعمق، وبالجدة، منها: "شرف". "النظرة العميقة". "الحليب الأسود"، رواية كأنها السيرة الذاتية للكاتبة، ثم روايتها "لقيطة اسطنبول" ثم "قواعد العشق الأربعون". سيرة لعشق أنساني، يوجه نحو الله مرة عن طريق التبريزي، وجلال الدين الرومي، ومرة أخري من خلال "أيلا" تلك التي تبحث عن الانسجام في الحياة الدنيا. تتعرف أيلا على صوفي مفارق، يكتب الكتب، والعلاقة بين الإنسان وأخيه هي علاقة في الطريق إلي الإيمان هو يكتب عن الحب حيث انعم عليه الله بالأشياء الثلاثة العزيزة: المعرفة، والفضيلة، والقدرة علي مساعدة الآخرين في البحث عن طريق الله. يقول مترجم النص "خالد الجبيلي" "تتناول العشق، والحب بين الشرق والغرب، والماضي والحاضر، والروحي والدنيوي" تقرأ، فيزداد أسرك لذلك العالم الصوفي المشبوب بالبهجة. والحضور الشفاف للصوفي جلال الدين الرومي عند لقائه بأحبته، ثم رحلة الكشف عن طريق أشد قسوة. مكابدات وقواعد. الحب قريب ومستحيل علي نحو ممض. قوي وأشبه بخيوط الحرير "لا يوجد فرق كبير بين الشرق والغرب، والجنوب والشمال، فمهما كانت وجهتك فثمة وجه الله تعالى، وعليك أن تحمل بداخلك رحلتك، فان سافرت في داخلك فسيكون بوسعك اجتياز العالم الشاسع. "أيلا" تسعي للخلاص من وطأة حياة يحكمها الترتيب. أربعون عاما هي حياة "أيلا روبنشتاين" مثل بحيرة راكدة، سلسلة من العادات والاحتياجات والتفاصيل المتوقعة. تتوازي تلك الحياة مع رحلة شمس التبريزي في البحث عن جلال الدين الرومي التبريزي الباحث عن خلاص لروحه، والذي لا يكف عن السؤال عن معني الصبر: أن تنظر إلى الشوكة وتري الوردة، وتنظر إلى الليل وتري الفجر: ان العشاق لا ينفد صبرهم أبدا". مجد الحكايا، وعلاقة التبريزي بجلال الدين هي الفناء في الوجود الملغز، بحثا عن فناء الروح !! تشتغل "شافاق" علي قضايا مثيرة للجدل ، تتعلق بحرية التعبير ، وقضايا المرأة ، ومشكلات المهاجرين ، وعلاقة الشرق بالغرب التي هي "ليست كالماء والزيت ، فمن الممكن أن يندمجا ، وينصهرا معاً من دون أن يلغي احدهما الآخر" حين أصدرت "أليف شافاق" روايتها "لقيطة اسطنبول" سببت لها هذه الرواية العديد من المشكلات، وحكم عليها بالسجن لثلاث سنوات، إلا انه تم العفو عنها. كانت الرواية عن اضطهاد الترك للأرمن، كما تظهر الرواية مدي قبح تلك المذابح الجائرة التي وقعت ضد هذا الشعب. "شافاق" تمد أناملها فتكتب كتابة جديدة عن البشر، وتقوم هذه الروايات مشفوعة بفضول الفلاسفة، وعشق التاريخ، والبشر عندها يتميزون بأنهم في حالة سعي دائم، تحدوهم رغبة حقيقية في الخلاص.