في غمرة الانشغال بالانسحاب الروسي ودوافعه، يجب ألا ننسى تأثيرات هذا الانسحاب على وضعية تنظيم داعش في سوريا الذي يترشح كأحد أكبر المستفيدين من مسار الأحداث، وبدأ فور الانسحاب ممارسة أعمال عنف واسع في المناطق التي يسيطر عليها تجاه الأقليات العرقية والدينية وكذلك تجاه الأهالي الرافضين لآيديولوجيته الحربية بحجة تهمة «الردّة» التي لا تتطلب في الأدبيات المتشددة أي محاكمة أو مراجعة قبل تنفيذ عقوبة القتل. والحال أن أي مواجهة ناقصة أو محدودة ضد تنظيم داعش تنعكس إيجابًا على تمدد التنظيم واكتسابه المزيد من الانتصارات الوهمية وبالتالي الكثير من الكوادر والأتباع، وهو ما جاء في التصريح الذي يقترب من حدود السخرية من قبل روسيا حين أعلنت أن تنظيم داعش سيظل حاضرًا ومؤثرًا إلى أجل غير مسمى، وينقص التصريح أنه يتمدد بسبب تجاهله على الأرض من قبل النظام والميليشيات الشيعية وحتى بعد التدخل الروسي الذي استهدف تنظيمات معارضة معتدلة. ما يوحي به الخروج المسرحي من قبل بوتين هو أنه يسعى إلى تعزيز المكاسب الميدانية التي حققها تجاه نظام الأسد وضد المعارضات المعتدلة لا سيما في منطقة حلب، كما أن ذلك قد يتيح له النجاة بمناطق آمنة يقيم فيها حكومة مركزية تاركًا باقي البلاد والعباد تحت قبضة العنف الداعشي. من جهة «داعش» فإن اكتفاءه بالمناطق المحررة من قبله وعدم مناكفته للنظام يعد استراتيجية فعالة جدًا للحفاظ على مكاسبه على الأرض ومحاولة تجنيد المزيد من الأهالي من الأطفال والشباب والكهول في محاولة لخلق جيش ميليشيوي محلي في حال انقطع تدفق المقاتلين الأجانب إلى مناطق التوتر لا سيما بعد حالة التراجع التي يعانيه في المناطق العراقية وازدياد تهديد المقاتلين الأكراد ورغبة تركيا في الانتقام من التنظيم الذي يهاجمها في عقر دارها كلما لوحت بتهديده. في منتصف العام الفائت أصدرت الأمم المتحدة تقريرًا جديدًا عن جرائم التنظيم في الأراضي التي تخضع تحت سيطرته حيث أكدت ممارسته: القتل والإعدام من دون أي محاكمة عادلة، والتعذيب، وخطف الرهائن، والاغتصاب وممارسة العنف الجنسي وتجنيد الأطفال واستخدامهم في الأعمال العدائية والهجوم على الأهداف المحميّة، فضلاً عن غيرها من الانتهاكات الخطيرة للقانون الإنساني الدولي، وهنا يمكن الحديث عن جانب غير مغطى في وسائل الإعلام بشكل جيد، وهو أن تنظيم داعش ليس مجرد ميليشيا مقاتلة تستهدف أعداء محددين بل إنه تيار عدمي لا إنسانوي يتخذ من العنف الفوضوي وفائض الرهبة لدى الناس لاستعبادهم وتجريف أجيال كاملة من السوريين من أبسط حقوق الآدمية، وفي ظل عدم الإجماع الدولي على أولوية الحرب على الإرهاب بكل أشكاله وعلى رأسه تنظيم داعش سنكون أمام فصل جديد لم تعهده المنطقة من قبل وهو ولادة أجيال جديدة من الإرهابيين بالتبني، والتقارير تعكس مدى سرعة انتشار دعاية التنظيم في ظل هذا التراخي الدولي عن إيجاد صيغة حل للحالة السورية التي تزداد تعقيدًا مع مرور الوقت. تنظيم داعش يتغذى على الخلافات ضد الحرب عليه من التردد الأميركي إلى التجاهل الروسي إلى الفزع الأوروبي من استهداف التنظيم لأراضيه والتفكير في المقاتلين العائدين منه، هذه الاستراتيجيات المرتخية ساهمت في تمدد التنظيم بشكل توسعي، ورغم مروره بفترات ركود وضعف وحصار، فإن تنويعه للحرب من المواجهة المباشرة إلى حرب الشوارع إلى ممارسات التطهير العرقي حقق له حضورًا كبيرًا على الأرض لا سيما مع وجود المد الشيعي الذي يعتبر أحد أهم أسلحة «داعش» الدعائية لجذب المقاتلين تحت رافعة الطائفية. وفي الضفة المقابلة يعزز الانسحاب الروسي تغول الجماعات الشيعية المسلحة بعد أن استطاع إيجاد مناطق آمنة للنظام ورقعة جغرافية لتمدد الميليشيات الشيعية التابعة لإيران والتي سعت منذ بدايات الأزمة السورية إلى تكرار تجربة «حزب الله» باجتراح نسخة سورية وكلنا يتذكر تصريح العميد حسين همداني قائد قوات «الحرس الثوري الإسلامي» قبل عامين حين أكد أنّ إيران قد أنشأت «حزب الله» ثانيًا في سوريا وذلك في إطار توحيد الكثير من الميليشيات المتعددة الأعراق والطوائف، وأهم هذه الميليشيات حضورًا وتمددًا هي التابعة لشبكة «لواء أبو الفضل العباس» و«لواء ذو الفقار» و«لواء الإمام الحسين» في مدينة درعا التي تتلقى دعمًا مباشرا من الحرس الثوري كما تستفيد من خبرات حزب الله والحرس وكل الميليشيات الشيعية في العراق التي تحتكم في أمرها إلى طهران. ولا شك أن موجة الاهتمام الدولي والإعلامي على «داعش» بسبب طبيعة التنظيم الدعائية في الترويج لأعماله العنفية ساهمت في إضعاف التركيز على النشاط الشيعي المسلح وبالتالي تمددت هذه الميليشيات في كل المناطق الخاضعة وساهمت تنظيمات ذات تاريخ عسكري عريق كجيش الإمام المهدي في إذكاء الحضور العسكري لتلك الميليشيات الشيعية التي تتخذ من حمص أرضًا خصبة بحكم قربها من الحدود اللبنانية السورية، ورمزيًا يعد «حزب الله» الآن شريكًا أساسيا للنظام وتقوم كل الميليشيات التي أنشأها ودعمها برفع أعلامه إلى جانب أعلام النظام في إشارة إلى ما يتجاوز التحالف إلى المحاصصة على الأرض وهو ما يطرح السؤال حول الأثمان الباهظة التي ستقبضها هذه الميليشيات في حال فشل التوصل إلى حل سوري شامل، والأكيد أن الثمن الأكبر الذي دفعه النظام السوري حتى الآن هو منح أرض صلبة ونفوذ قوي لإيران في قلب سوريا العروبة.