لم يكن اغتيال النائب العام هشام بركات في 29 حزيران (يونيو) الماضي واتهام وزارة الداخلية المصرية مطلع آذار (مارس) الجاري حركة «حماس» بمساعدة جماعة «الإخوان المسلمين» في قتله، وحده شاهداً على سخونة الأزمة في مصر وتمددها. فقد تلت ذلك تصريحات اعتُبِرتْ مسيئة للرسول أدلى بها المستشار أحمد الزند، وزير العدل، الذي أقيل من منصبه، والذي مثَّل اختياره من الأساس للمنصب صدمة لقطاع يعتدّ به من الجمهور المصري، ليس فقط المناهضين لنظام الحكم، ولكن، أيضاً وسط المناصرين. تصريح الزند في حواره المتلفز يوم 12 الجاري: «سأسجن أي أحد يخطئ في حق الدولة حتى لو كان النبي عليه الصلاة والسلام»، لم يكن الأول من نوعه، فقد سبق أن طالب بقتل عشرة آلاف من الإخوان المسلمين، ناهيك عن وصفه القضاة بالأسياد ومَنْ دونهم بالعبيد. المثير للحيرة أنه في الوقت الذي يصر النظام السياسي على تسخين الأزمة مع «حماس» التي قام وفد منها بزيارة القاهرة أخيراً لبحث الاتهامات المصرية للحركة بدعم «نشاطات إرهابية» في شبه جزيرة سيناء، واغتيال النائب العام المصري إضافة إلى البحث في سبل تعزيز العلاقات الثنائية، وفتح معبر رفح الحدودي مع مصر والسماح لـ «الغزيين» بالتنقل عبره، فإن النظام لم يحرك ساكناً تجاه تجاوزات الزند التي ساهمت في زيادة الاحتقان السياسي، وتوسيع رقعة الاستقطاب المجتمعي. والأرجح أن الزند لم يعد من أشد خصوم جماعة «الإخوان»، والذي كان وحده في صدارة المشهد ضد الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس المعزول محمد مرسي في تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، وإنما بات يعادي المجتمع. صحيح أن النائب العام هشام بركات ظل قبل اغتياله محط هجوم جماعات الإسلام السياسي، خصوصاً بعد قرارات الإحالة غير المقننة في جانب كبير منها للعشرات وحبس نفر واسع منهم احتياطاً، والتحقيقات الموسعة حيال قضايا التخابر والتجسس وأخرى متعلقة بالأمن القومي، إلا أنه كان أقل حدة في تصريحاته من الزند الذي لم تكن دعوته لتوريث القضاء مثلاً سقطة عفوية، وإنما هي متجذرة في وعي الرجل وضميره. فهو مثلاً، اقترح في نيسان (أبريل) 2011 رفع دعاوى قضائية للمطالبة بتعيين أبناء القضاة الحاصلين على تقدير مقبول للعمل في القضاء. كما يعتبر الزند من أشد المنادين والمدافعين عن تعيين أبناء القضاة في القضاء، ويعتبره بمثابة «الزحف المقدس»، وكشف عن ذلك في تصريحات له، في آذار (مارس) 2012 قال فيها: «وسيظل تعيين أبناء القضاة سنة بسنة ولن تكون قوة في مصر تستطيع أن توقف هذا الزحف المقدس إلى قضائها». وأضاف في لقاء تلفزيوني في نيسان 2013: «تعيين أبناء القضاة في السلك القضائي ليس توريثاً، وإنما إعداد مسبق لأبناء المستشارين للعمل بالقضاء واستيفائهم للشروط التي تم وضعها منذ عام 1943». وإذا كان المستشار الزند هو أول وزير عدل يحظى برفض مجتمعي غير مسبوق، كشفته دعوات شعبية متتالية لاستقالته، فإن النظام ما زال يغض الطرف، عن أفكار الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية التي كانت العناوين الأبرز في احتجاجات المصريين، كما يكشف في سياق مختلف عن خلل في السلوك السياسي لنخب الحكم ودوائر صنع القرار. ولعل رد فعل الأزهر ونادي القضاة تجاه تصريحات وزير العدل المُقال الأخيرة كاشفة عن هذا الخلل، فجاء بيان الأزهر ضعيفاً وفاتراً ومعوَّماً، وأشار إلى أن المسلم الحق هو الذي يمتلئ قلبه بحب النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) وباحترامه وإجلاله، وهذا الحب يعصمه من الزلل في جنابه الكريم (صلى الله عليه وسلم). الأرجح أن تصريحات الزند الأخيرة لم تكن هـــي التي وضعـــت القضاء اليوم فــــي صدارة المشهد العام في مصر، إذ تبـــدو أزمـــة العدالة مرشحة للتفاقم في ظل تصـاعد العنف، وفتح جبهة جديدة من المواجهة ليس بين أبناء العنف والقضاة وإنما بين القضاة وقطاع معتبر من المتدينين غير المسيسين، الذين يرون في استدعاء الزند غير المبرر للرسول، وهو شخصية تاريخية ومقدسة، إهانة واستخفافاً بالأديان. السلوك القضائي في مصر لم يكن مثار جدل الداخل فقط، فقد انتقد البرلمان الأوروبي في تقريره الصادر في 11 آذار (مارس) الجاري أوضاع حقوق الإنسان في مصر، وعمليات التعذيب والاعتقالات غير القانونية والتضييق على النشاط الحقوقي. وينذر التراجع الواضح في مرفق العدالة المصرية بمخاطر على الدولة والمجتمع، ويضع النظام الذي يعاني سخطاً مجتمعياً في ظل الغلاء الفاحش والموت السريري للسياسة في مصر في عين المجتمع الدولي، فقد وصفت وزارة الخارجية الأميركية أحكام الإعدام لمرسي وقادة الإخوان بأنها «ظالمة وتقوض الثقة في سيادة القانون»، وانتقدت منظمة العفو الدولية في 30 حزيران (يونيو) الماضي حملة الاعتقالات الجماعية، واصفة مصر بأنها أصبحت «دولة قمعية»، مع أكثر من 41 ألف معتقل منذ العام 2013. في هذا السياق يبقى مهماً تعديل المنظومة التشريعية، باعتبار أن الإطار القانوني للتحول السياسي أحد المحددات الأساسية للتطور الديموقراطي، والذي لا ينصرف إلى النصوص فحسب، ولكنه إفراز لواقع سياسي معين، وينعكس مباشرة على تطور ذلك الواقع السياسي. القصد أن الرصيد التقليدي للسلطة القضائية في مصر سجل تآكلاً ملحوظاً كشفته مناخات بعض الأحكام القضائية في القضايا السياسية من جهة، وتشويه الصورة الذهنية للقضاء بعد تصريحات الزند المسيئة للرسول. وضعية مرفق العدالة وأزمته الراهنة لا تعني بالضرورة تجاهل دور القضاء التاريخي والسياسي، فلسنوات ظلَّ الحصن الأخير لاحتضان بذور التجربة الديموقراطية التي حاولت القوى السياسية على اختلاف اتجاهاتها وتوجهاتها شلها طوال العقود التي خلت. كما ظل القضاء المصري حائط صدٍ ضد سياسات مبارك وترسانة القوانين الاستثنائية التي سعى إلى تمريرها من وراء ستار، ولعبت المحكمة الدستورية دوراً أساسياً في تعديل بعض الجوانب الإجرائية المشوهة. لكن الحقيقة التي لا يمكن غض الطرف عنها تتمثل في أن القضاء المصري الراهن مأزوم، إذ سار في طريق متعرجة لم تُعرف ملامحها بوضوح في الفترة الأخيرة. وأصبح التشفي والتعالي وتقسيم الناس على مذبح المصالح والوجاهة الاجتماعية هي أبرز عناوين المنظومة القضائية. الفرصة تظل قائمة بإقالة الزند وأشباه القضاة، فضلاً عن أن التقاليد القضائية والثقافة القانونية في مصر أصيلة وثرية وإن شابَها بعض العوار أو الجمود في زمن الارتباك وغياب الرؤية وتناحر المصالح الضيقة. * كاتب مصري