في ترجمة عربية لرواية الكاتب الفرنسي جان لوكليزيو ثورات، ترسل بلاروسيا (روسيا البيضاء) جيشاً جراراً لمحاصرة الثورة الفرنسية سنة 1792. والصفحات الأولى من رواية الأجيال الملحمية هذه تعنى كثيراً بهذا الحدث، واصفة عمليات الكر والفر والقصف المدفعي العنيف والأهوال التي ذاقها الفرنسيون جراء هذا التدخل السافر.. للوهلة الأولى يتساءل القارئ عن الحكمة التي قصدها الكاتب من هذه الفنتازيا التاريخية، وعن سر حشره لروسيا البيضاء في حدث لم تشارك فيه حقيقة، بل إنها لم تكن موجودة، لا بكيانها ولا باسمها الراهنين، على ساحة الأحداث العالمية في ذلك الوقت؟! التفسير بسيط، وهو لا يتعلق بمقاصد الكاتب ولا بأي اتجاه فانتازي في روايته، وإذا ما كان من فانتازيا فهي في الترجمة العربية فقط. وبما أن السيدة المترجمة لم تسمع بوجود شيء اسمه بروسيا (ألمانيا)، ولم تقرأ كتاباً تاريخياً واحداً عن تلك المرحلة، كما أنها، على ما يبدو، لا تستسيغ كثيراً الاطلاع على أطلس العالم.. فقد ظنت ببساطة أن بروسيا هي مجرد تحريف فرنسي ل بلا روسيا، أو لعلها اعتقدت أن المسألة برمتها مجرد فذلكة من الكاتب، فأرادت أن تصوب الخطأ وتعيد الأمور إلى نصابها. ليس هذا مجرد خطأ مطبعي، كما أنه ليس ذلك الخطأ الصغير غير المؤثر الذي لا يستحق التوقف عنده. إن امرأة (أو رجلاً بالطبع) لا تعرف شيئاً عن مرحلة تاريخية معينة، حتى إنها لم تسمع باسم دولة كانت لاعباً أساسياً فيها، فهي ليست أهلاً لأن تترجم رواية تاريخية عن تلك المرحلة.. على كل حال ليست هذه النقيصة الوحيدة في الترجمة، ذلك أن المعاني تضيع وسط الجمل الركيكة الدوارة، وألق الأصل يختفي بفعل الترجمة القاموسية المدرسية (كلمة بكلمة وحرف بحرف)، ولا يحتاج القارئ العربي لأن يكون متبحراً في اللغة الفرنسية، ولا حتى ملماً بها، ليقف أمام هذه المحاكمة المنطقية: إذا كان هذا هو لوكليزيو فهو لا يستحق أية شهرة أو اهتمام، ولكن بما أن الرجل حاز فعلاً شهرة واسعة، ومعها حاز جائزة نوبل، فلا بد إذاً أن يكون الذي بين أيدينا ليس لوكليزيو، بل ترجمة رديئة له. للأسف لا تزال هذه هي حال الترجمة إلى العربية، ما يبقي السؤال المرير مشرعاً: هل حقاً نقرأ، نحن أبناء العربية، أدباً عالمياً؟، هل قرأنا بالفعل شكسبير ودانتي وبلزاك وفلوبير وتوماس مان وهيرمان هسه وفوكنر وهمنغواي...؟ في أزمنة سابقة كانت رداءة الترجمة سافرة وفاقعة، حيث لم يعش قراء العربية تحت وطأة جهل المترجمين وحسب، بل وتحت رحمة وصايتهم الغاشمة أيضاً. لقد شاعت ترجمة عربية غريبة لكتاب ميكيافيلي الأمير، ولسنوات طويلة وفي بلدان عربية عديدة، ظلت هذه الترجمة هي الإطلالة الحصرية على الكتاب الشهير. لقد أقحم المترجم نفسه في الكتاب لدرجة بدا معها وكأنه مشارك في تأليفه، ولم يتورع عن حشر شروحاته وتفسيراته الساذجة وأحكامه الأخلاقية الفجة، ليس في الهوامش بل في المتن. هكذا، مثلاً، وبينما ميكيافيلي يتحدث عن علاقة الأمير بتابعيه ومرؤوسيه وإذا به يقول: ولعمري هذا يذكرني ببيت الشعر العربي القائل: أعلمه الرماية كل يوم فإذا ما اشتد ساعده رماني. يروي كاتب عربي لأصدقائه حكايته (يوم كان شاباً) مع نسخة عربية من رواية غوستاف فلوبيرمدام بوفاري. لقد قرأها بشغف وتأبطها لأسابيع وروى حكايتها ومعانيها وتفاصيلها لكل من صادفه، وكذلك فقد كتب عنها مراجعات وتعليقات في صحف ودوريات مغمورة. ومع هذا الانبهار الظاهر فقد كان شيء ما في داخلي يقول لي أنها ليست الرواية التي سمعت عنها.. وكنت أتساءل: هل حقا أنا أمام رواية عظيمة؟، وظل هذا الصوت الداخلي مقموعاً إلى أن قرأ صاحبنا مقالاً نقدياً مترجماً حول الرواية، وقد توقف الناقد مطولاً عند عبارة إيما بوفاري التي رددتها إثر عودتها من لقاء عشيقها: لقد صار عندي عشيق.. لقد صار عندي عشيق.. بالطبع لم تكن هذه الجملة، التي اعتبرها الناقد مفتاحية، موجودة في النسخة التي قرأها كاتبنا، وكذلك مشهد العشق برمته كان محذوفاً. إذاً لقد كان المترجم واحداً من أولئك الذين ينصبون أنفسهم أوصياء على الأخلاق والآداب العامة. ليس هذا مثالاً وحيداً، فقد كانوا كثيرين أولئك المترجمين الذين يتصرفون مثل رقباء التلفزة العربية، ممن اعتادوا حذف القبل والمشاهد الحميمية من الأفلام المعروضة في سهرات الخميس. مترجم من هؤلاء استعاض عن كل المشاهد العاطفية في ترجمته لإحدى الروايات بهذه العبارة التي تكررت في كثير من الصفحات: .. وعاشا لحظات من البهجة.. أيما بهجة. لم يقتصر الحذف على المشاهد العاطفية، فقد اعترف مترجم، في تقديمه لرواية قام بترجمتها، بأنه أقدم على حذف صفحات لا لزوم لها تدور حول تساؤلات ميتافيزيقية وشواغل وجودية، وهي أشياء تهم القارئ الأوروبي فقط، أما القارئ العربي فهو يعيش مطمئناً في ظل إيمانه ويقينه. وإضافة للوصاية الأخلاقية والفكرية، فقد كان الاستسهال دافعاً آخر للحذف، ما جعل المكتبة العربية تستعيض عن الأعمال الروائية العالمية بملخصات عنها. هكذا وصلتنا روايات كثيرة لفكتور هوغو وبلزاك وجين أوستن وديكنز.. وهكذا وصلتنا مسرحيات كثيرة لشكسبير نزع منها كل شيء تقريباً مع الإبقاء على الحبكة الأساسية وبعض مشاهد المبارزة، ليغدو شكسبير، عربياً، كاتب مغامرات مثيرة لليافعين. في العقود الأخيرة تغيرت الحال إلى الأفضل. كثر عدد المترجمين وقل عدد الأوصياء بينهم، كما أن الاستسهال لم يعد يصل إلى تلك الجرأة في الحذف والتلخيص. ومع ذلك فلا تزال الرداءة قائمة، ولكن بوجوه جديدة. لقد أصبحنا أمام مترجمين جامعيين يتقنون الترجمة المعجمية ولكن مع نقص ثقافي جلي لدى أكثرهم، وهو ما يتجلى في تضييع الكثير من الإشارات والإحالات والمقاصد العميقة للنصوص الأصلية. كما أن كثيراً من المترجمين يفتقد موهبة الصياغة الرفيعة في اللغة العربية، فتكون النتيجة كتباً جافة بأساليب ركيكة، وعبارات مشوشة، وكلمات غامضة، ومعان هائمة لا يلتقطها القارئ إلا بالحدس والتخمين، وأحياناً هو بحاجة إلى أن يعيد الصياغة بنفسه ليحصل على معنى أو بلاغة أو إيقاع.. يقدم د. علي القاسمي لترجمته رواية همنغواي وليمة متنقلة، معترفاً بتردده الطويل أمام الإقدام على الترجمة، وبخوفه من اقتراف خيانة المترجمين، ف الترجمة ليست مجرد توليد المقابلات المعجمية لمفردات النص الأصلي. وإنما هي نقلة تجري في إطار عملية التواصل.. فالمترجم يجتاز حدود لغتين عبر رموز لغوية، وأخرى ثقافية اجتماعية، وثالثة أسلوبية أدبية. فلا يكفي نقل النص مجرداً من حمولته الثقافية وعارياً من كسوته الأسلوبية المتميزة. وإنما يتحتم على المترجم أن يموقع النص في سياقه الثقافي ومقامه الاجتماعي، وأن يصوغه بأسلوب يتناسب مع أسلوب الكاتب الأصلي. وإذا فشل المترجم في واحد من هذه الميادين الثلاثة فإنه يخل بأمانة النقل التي تعد عماد الترجمة الناجحة. والسؤال: كم عدد المترجمين العرب الذين يدركون مثل هذه الصعوبات، أو حتى يشغلون أنفسهم بمثل هذه الهواجس والأسئلة قبل اقترافهم ترجمة لرواية أو قصيدة؟