أدركت إيران منذ اندلاع الثورة السورية أن حليفها الاستراتيجي في الشرق الأوسط، يمر بمرحلة عصيبة قد تجتثه قبل أن تنجح طهران في إيجاد بديل مناسب في المنطقة، فسخرت ماكينتها الإعلامية والدبلوماسية لمحاولة إقناع أتباعها في إيران وخارجها بأن قوى الاستكبار العالمي، خاصة الولايات المتحدة وإسرائيل، تستهدف ما تطلق عليه إيران محور المقاومة ضد الأطماع الصهيونية في العالم الإسلامي، وحشدت كل طاقاتها لتصوير ما يجري على الأراضي السورية، بأنه يختلف تماما عما جرى ويجري في بقية الدول العربية التي عاشت خلال الأعوام الثلاثة الماضية ما يسمى الربيع العربي وما تطلق عليه طهران الصحوة الإسلامية في محاولة لإبراز تلك الثورات بأنها تسير على خطى الثورة الإسلامية في إيران. خلال تلك الفترة كان توجه الغرب حول ما يجري في سوريا مترددا إلى حد كبير، ليس ذلك لصعوبة تعريفه ولكن خوفا على حليفها الإسرائيلي، وضمان أمنه واستقراره. إن الأمر الذي ساعد الغرب على هذا التردد يكمن في عدم وجود بديل جاهز لنظام بشار الأسد يمكن للغرب الاعتماد عليه في عدم تهديد تل أبيب. رغم هذا التردد الكبير دعمت بعض القوى الغربية الثوار السوريين بمساعدات غير قتالية تمثلت في بعض الملابس العسكرية وأجهزة للاتصال اللاسلكي ونحو ذلك، ولكن هذا الدعم الخجل جرى إيقافه أيضا. إضافة إلى ذلك فقد نجحت الدول الغربية في إخراج الأسلحة الكيماوية من سوريا خشية أن تقع في أيدٍ غير أمينة قد تشكل خطرا حقيقيا على الدول الغربية، خاصة الأوروبية منها. بعد اتفاق جنيف في 14 من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بين إيران ومجموعة الخمس زائد واحد حول برنامج إيران النووي، أخذت التصريحات الغربية والإيرانية، على حد سواء، بخصوص ما يجري على الأراضي السورية منحنى جديدا، وظهر تناغم كبير بين الصحافة الغربية والإيرانية حول ما يجري على الأراضي السورية وأصبحت المخاوف من تنظيم القاعدة والجماعات الجهادية تمثل القاسم المشترك بين تصريحات الجانبين. أدركت إيران أنها لم تعد في حاجة إلى اتهامات الشيطان الأكبر، وأن المرحلة تستوجب تغييرا تكتيكيا، حيث لم تعد تلك الاتهامات ذات جدية كبيرة في الفترة التي يجب أن تتقرب فيها طهران من واشنطن والعواصم الأوروبية، فاستبدلت بذلك فزاعة الإرهاب، نغمة تطرب الأذن الغربية وتدغدغ مخاوفها من الجماعات الإسلامية المسلحة. نجحت طهران في إقناع الغرب بأن الخطر سيكون كبيرا إذا استطاعت هذه الجماعات الإرهابية إسقاط النظام السوري والوصول إلى الحكم في دمشق. من المؤكد أيضا أن إيران ذكرت الولايات المتحدة وحلف الناتو بحقيقة مرة تتمثل في أن تلك الدول الغربية ليست مستعدة، سياسيا واقتصاديا، لخوض حروب جديدة مثل تلك التي خاضتها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) في أفغانستان واجتياح العراق في عام 2003. ولاكتساب نقاط جديدة في التحالفات المقبلة، فإن طهران لم تكن لتفرط في فرصة تذكير الغرب بمساعدتها لهم في تلك الحربين أيضا. سوريا ستكون صورة مطابقة تماما لأفغانستان بعد دحر قوات الاتحاد السوفياتي ووصول حركة طالبان إلى السلطة. لقد تجاهلت كثير من الصحف الغربية الدعم الإيراني الكبير، ماليا وعسكريا وقتاليا، للنظام السوري وتورط طهران في المعركة في الداخل السوري ممثلة بالحرس الثوري. طهران اعترفت رسميا بوجود رجال الحرس الثوري وفيلق القدس تحديدا في سوريا، كما أطلق بعض المسؤولين الإيرانيين تصريحات تتحدث عن خوض إيران معركة في سوريا وأن النظام السوري هو خط الدفاع الأول للجمهورية الإسلامية. في ظل هذه التصريحات، يبرز السؤال عن غياب الإدانة الغربية لتورط إيران في المعركة السورية وتلطخ أيدي جنودها بالدم السوري. هذه الازدواجية في المعايير تضع القوى العظمى وإيران في كفة واحدة تتمثل في الاصطفاف بشكل مباشر أو غير مباشر خلف النظام السوري، وإن اختلفت الأهداف والاستراتيجيات. من جانب آخر، تعد العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة بعد اتفاق جنيف خطوة أميركية تجاه إذابة الجليد في العلاقات بين إيران وإسرائيل. لن يكون ذلك، في الوقت الراهن على أقل تقدير، محاولة لبناء علاقات دبلوماسية بين البلدين، ولكن بهدف إيجاد أرضية تفاهم بين طهران وتل أبيب. الرئيس الإسرائيلي أعرب أخيرا عن استعداده للقاء الرئيس الإيراني حسن روحاني، مؤكدا أنه لا يوجد عداء إسرائيلي ضد إيران حكومة وشعبا. الولايات المتحدة تؤكد على ضرورة إيجاد سلام دائم في الشرق الأوسط، لذا فإن محاولة الضغط على إيران للتقارب مع إسرائيل وقطع الطريق على الجماعات الجهادية يصب في هذا الاتجاه. يؤكد هذا الاستنتاج حديث بعض وكالات الأنباء عن أن الدول الغربية طلبت من إيران إيقاف دعمها لحزب الله اللبناني، وهي، إن صحت، تعتبر مطالب غربية لإيران بتقديم ضمانات بعدم قيام حزب الله بأي استفزازات على الحدود الإسرائيلية. هذه الخطوة قد يتبعها مطالب أخرى تتمثل في تشجيع إيران على إيقاف الدعم لحركة حماس الفلسطينية. هذان الطلبان سوف يجدان، ولا شك، ترحيبا حارا في الشارع الإيراني، ليس كرها في فلسطين ولبنان ولا حبا لإسرائيل، ولكن الشارع الإيراني يردد، منذ انتخابات 2009 المثيرة للجدل، شعارات تندد بصرف الأموال الإيرانية على دول وأحزاب أجنبية، بينما يعيش المواطن الإيراني في فقر وعوز شديدين، وتذكروا الشعار الشهير لا فلسطين ولا لبنان.. روحي فداء إيران، وبعد الثورة السورية جرى ضم سوريا إلى القائمة أيضا. كيف سيكون الموقف الإيراني؟ طهران مترددة جدا في هذا الجانب، وقد مارست الولايات المتحدة ضغوطا مؤقتة تتمثل، من جانب، في تمرير عقوبات جديدة ضد إيران، ومن جانب آخر، إعلان وزير الخارجية جون كيري عن أن المساعدات المالية للجيش الحر السوري قد تستأنف سريعا. هذان الحدثان قادا طهران للتحرك سريعا، فأجرى وزير خارجيتها اتصالا بنظيره الأميركي بينما توجه المفاوض الإيراني عباس عراقجي إلى بروكسل للقاء كاثرين أشتون لمناقشة المستجدات التي أدت إلى توقف المباحثات بين إيران والقوى الست حول برنامج إيران النووي.. الأمر الذي تراه إيران نقضا صريحا لاتفاق جنيف ويهدد نجاحه. طهران في موقف أضعف من الجانب الغربي وبقدر ما تقدم من تنازلات، يتحرك القطار، من دون الخروج عن المسار المرسوم له. * نقلا عن الشرق الأوسط ** جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.