منذ أن اعترضت تركيا على تمثيل حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري في مفاوضات جنيف 3، كانت أنقرة تصطدم بالحائط المسدود. فما دامت المفاوضات تهدف إلى إيجاد حل للأزمة السورية فمن غير الممكن تحقيق ذلك بغياب أحد أبرز أطراف الصراع. وكما تتمثل المعارضة بفصائلها المختلفة وكما يتمثل النظام فمن حق الأكراد في سوريا أيضاً أن يتمثلوا. نسوق هذا المدخل لنقول إن التطورات المتسارعة في الأيام الأخيرة وضعت تركيا وجهاً لوجه مع المكون الكردي في سوريا دون غيره. كل التصريحات والمواقف التركية خلال الأسبوعين الأخيرين كانت تعطي انطباعاً أنه لا يوجد في سوريا سوى الأكراد وأنه ليس لتركيا جيران سوى أكراد سوريا، وأنه ليس من مشكلة لتركيا سوى أكراد سوريا وأن الاستقرار في المنطقة كله مرتبط فقط وفقط بالخلاف التركي الكردي. إن دلّ هذا على شيء فعلى أن النظرة التركية إلى أحداث المنطقة وإلى توصيفها وتقدير احتمالاتها لا يحمل الصفة الاستراتيجية. ففي السابق كانت تركيا تنظر إلى أكراد العراق على أنهم مجرد قبائل وإلى جلال الطالباني ومسعود البرزاني على أنهما مجرد زعيمي عشائر. بل وضعت تركيا خطاً أحمر وهو منع إقامة دولة مستقلة أو فيدرالية لأكراد العراق. ربما تكون تركيا أكثر دولة يتردد على لسان مسؤوليها عبارة الخطوط الحمر. لتركيا خطوط حمر كثيرة ومنذ عقود. لكن تورم الثقة بالنفس والنظر إلى المنطقة والمشكلات فيها عبر نافذة صورة تركيا القوية هو الذي كان يسهّل على قادة حزب العدالة والتنمية تحديداً استسهال وضع الخطوط الحمر هنا وهناك. لكن ما جرى في العراق من تطورات جعل الأكراد يدوسون تلك الخطوط الحمر لا بل يحولون تركيا إلى الصديق الوحيد لهم. اليوم يتكرر الأمر مع العلاقة بين أنقرة وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا. ممنوع عليهم أن يتجاوزوا نهر الفرات غرباً حيث تنظيم داعش. وممنوع أن يتقدموا إلى مدينة أعزاز حيث قوات معارضة موالية لتركيا. وكان قبل ذلك ممنوع عليهم أن يتقدموا للسيطرة على مطار منغ وبلدة تل رفعت الاستراتيجية. لكن الأكراد داسوا هذه الخطوط الحمر. رفعت تركيا سقفاً أعلى بأن تجاوز هذه الخطوط يعني تدخلاً عسكرياً. وحشدت على الحدود ووجهت الإنذار تلو الآخر وهددت أنقرة واشنطن بأن على الأخيرة أن تختار بين أن تكون تركيا شريكة لأمريكا أو أن يكون الأكراد شركاء لها. هكذا وضعت أنقرة نفسها وهي الدولة الكبيرة إقليمياً وذات الجيش القوي والموقع الاستراتيجي المهم في سلة واحدة مع حزب صغير بالكاد بدأ يبرز على ساحة الأحداث في سوريا منذ ثلاث سنوات. تركيا الثمانون مليوناً تدفع رأسها للاصطدام بحزب يمثل بالكاد مليوناً ونصف المليون إنسان. تركيا العضو القوي في الناتو تواجه مقاتلين لا يملكون سوى أسلحة أوتوماتيكية وقذائف صاروخية. ألا يستدعي كل هذا التساؤل عن العقلية التي ترسم الاستراتيجيات في تركيا وتنظر إلى الأحداث في المنطقة؟. وبعد كل هذا لا تستطيع تركيا أن تدخل متراً واحداً في سوريا لمنع الأكراد من التقدم، بل يختزل الهدف التركي في منع سقوط أعزاز بيد الأكراد. هذه الامبراطورية التركية التي رفعت مع حزب العدالة والتنمية شعار العمق الاستراتيجي الممتد من بلاد الأويغور في الصين شرقاً إلى موريتانيا غرباً ومن القوقاز والبوسنة شمالاً إلى جيبوتي جنوباً، لم يتبق لها من هدف سوى منع بلدة بالكاد يتعدى عدد سكانها بضعة آلاف وهي بالأساس شبه خاوية إلا من المسلحين بسبب الحرب ولا تبعد عن الحدود التركية سوى سبعة كيلومترات. ومع ذلك هي لا تستطيع أن تدخل برياً إليها. أين النظام في سوريا وأين إيران وأين روسيا وأين داعش وأين النصرة وأين القاعدة وأين الحلفاء من واشنطن إلى لندن وأين حلف شمال الأطلسي؟ لقد نسي الأتراك كل هؤلاء ولم يتبق سوى تنظيم كردي صغير. لقد سقطت تركيا في امتحان رؤية مصالحها الحقيقية والواقعية فقط عندما تقدمت الإيديولوجيا لتدير السياسات. وهو ما فعله سابقاً صدام حسين في الكويت وسلوبودان ميلوسوفيتش الصربي في البوسنة ومن قبلهم الاتحاد والترقي في تركيا نفسها قبل مئة عام. والتاريخ يكرر نفسه ليس بوقائعه لكن بنتائجه المتشابهة.