في الصف الرابع، حين وقف طالبٌ أسمرُ بالغ الخجل على باب الشُعبة، استسمح المُعلمة بالدخول، لأن المُدير أخبره أن فرزه جاء في تلك الشُعبة الصفيّة. وحين سألته عن اسمه، أجاب بصوت خفيض «ميمون»، فغرقنا كلنا في موجة ضحك هستيرية، شاركتنا بها حتى المُعلمة، بينما بقي ذلك الطفل الخجول مصدوماً وغير مُدركٍ «الفداحة» التي ارتكبها ليستحق كُل هذه السُخرية. لم يكن صديقنا ميمون يُدرك أن معنى اسمه بالكُردية، يعني حرفياً «القِرد»، وهو شيء لم يعرفه ميمون قط، حتى بعد سنوات من رِفقتنا المدرسيّة. لم تمض أيام كثيرة، حتى بدأ ميمون يندهش للغة التي نستخدمها في التواصل في ما بيننا، وحينما نضحك يغتاظ للغاية، ويذهب لإخبار المُعلمة بأننا نتحدث عنه، وحينما تسأله المُعلمة عن مضمون كلامنا، يقول ببراءة «ما أدري، بس يحكون ويتطلعون عليّ ويضحكون!!». مع الوقت وتعمق صداقتنا مع ميمون، رحنا نُترجم له النُكات التي نتبادلها، لكنها لم تستدرج ابتسامته، بل يستغرب دوماً لماذا تضحكنا. إذ كيف نضحك على أشياء لا تُضحك!! وبدورنا نستغرب ما يرويه ميمون لنا من نُكات وحكِايات. الأمر نفسه يتم حين نتبادل الشتائم وأشكال التعبير الوجدانية الأخرى والقصص الخُرافية التي سمعناها عن أهلنا، والأغاني والأشعار والرقصات والإيحاءات الجسدية والكلمات المُشفرة. فكُل ما يتعلق بـ «اللُغة العميقة» مقطوعاً بيننا، على رُغم وجود «لُغة معرفية» مدرسيّة مُشتركة. وهو ما يحدث الكثير من سوء الفهم مع رفاقنا من أمثال ميمون، حيث لم نُدرك وقتها أن لكل منا «لغة أماً» خاصة به، وأن تلك اللغة يُستحال أن تُلقن أو تُدرس أو تُعلم، فهي شيء عميق تتوارثه العائلة ويحفر عميقاً في الذاكرة الجمعية. كل منا تلقى لغته واستبطنها بطريقة غير واعية، من بيئته التي ولد فيها، وباتت جزءاً تكوينياً من هويته و «إنسانيته». لا نعرف ما الذي تم مع ميمون والكثيرين الكثيرين من أمثاله و «أمثالنا»، من الذين ولدوا وعاشوا في بيئات وجُغرافيات مُركبة. ما الذي حصل معهم بالضبط حين أرادوا التفاعل مع أُناس لا تجمعهم بهم «لُغة أُم» مُشتركة، لا سيما في أشكال التفاعل التي لا تنفع معها إلا اللُغة الوجدانية الحميمة، كمشاعر المواساة أو الحب. وهل من فظاعة توازي الفشل في التعبير عن الود والحُب لمن تُصادق أو تعشق، بلُغة تمس وجدانه بصِدق؟! صحيح أنه كان من الصعب على الأطفال «العرب» الذين يعيشون في مناطق ذات غالبية سكانية كُردية وسريانية التواصل مع أقرانهم والتودد اليهم ومعرفتهم عن قرب. لكنهم لم «يعانوا» قط ما عاناه غيرهم، الآخرون من أمثالنا. فنحن باتت لنا لغتان مُنفصمتان تماماً. لُغة مدرسية تلقفنا عبرها المعارف والعلوم والمفاهيم، لُغة شكلت أداتنا الوحيدة لفهم العالم والظواهر، وعبرها وعينا حركة التاريخ والمُجريات، والمعاني المُجردة والعلوم الرياضيّة والمصطلحات، وأخرى ترتبط بالوجدان والضمير، تلك التي تسعفنا في التعبير عن الذات والخوالج. وعليه، بقي على الدوام «خلل» ما، إذ لم نستطع أن نُعبر عن «أرواحنا» بلُغة معرفتنا، وكذلك نفشل في التعبير عن أفكارنا ورؤانا بلغتنا العميقة الوجدانية. فنحن على الدوام في حرج مكين، في تلعثم وقلق، في دولة استبدادية قطعت الأوصال بين أرواحنا وأدمغتنا. وكان من نتاج تلك العوالم أنها صنعت من الكثيرين منا أشخاصاً مُستفزين على الدوام، مليئين بحس دفين بالاستهداف من المركز ومن الغالبية السُكانية والثقافية واللغوية. وأدى منعنا من التعلم والتكلم بلغتنا الأم الى قهر جعل «اللُغة الأخرى» في ذاكرتنا لُغة «الجماعة القاهرة»، وليس فقط النظام القاهر والمُستبد. لن أنسى ما حييت موقفاً حصل في الصف السادس، حين سأل مُعلم اللغة العربية زميلنا رضوان «السمين» أن يعرب جملة، فقال له «رضوان أنت أعروب». فرد رضوان بسرعة وبطريقة بديهية «لا أستاذ والله العظيم نحنا أكراد»، ابتسم المُدرس ورد «يا ابني قصدي أعرب الجُملة، مو قصدي أنت عربي»!