ميكافيللي، فيلسوف وسياسي إيطالي، عاش في نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر في بيئة سياسية قد لا تختلف كثيراً عن البيئة السياسية التي نعيشها اليوم. وعلى الرغم من أن إيطاليا شهدت حضارة مزدهرة، واستطاعت أن تحكم مناطق كثيرة في العالم، إلا أنها عانت التفكك والانقسام والتنافس والتنازع بين دويلاتها التي سادتها الحروب، وكانت موضع أطماع واستهداف من قبل الدول الأجنبية المجاورة. والفترة التي عاشها سادت فيها حالة من الردة نحو الكفر والوثنية، وكان الحكام يلجؤون لتثبيت حكمهم وتحقيق نزواتهم السياسية إلى كل الأساليب غير الأخلاقية. ولم يكن البابوات ممثلو السلطة الكنسية الدينية أحسن حالاً من الحكام الزمنيين. فقد لجأوا أيضاً إلى الفساد واستغلال سلطتهم، وذهب بهم الأمر إلى حد الادعاء بأنهم يملكون تفويضاً إلهياً. وشجعت الانقسامات أطماع فرنسا وألمانيا وإسبانيا. في هذه الأجواء عاش ميكافيللي الذي رأى أن البابا كان أضعف من أن يوحد إيطاليا، وكان من الضعف أنه كان يمنع أي حاكم آخر من أن يقوم بالمهمة نفسها. وهذا ما دفعه للسخرية من الكنيسة والبابوات، وهو ما دفعه لكتابة كتاب الأمير، الذي لا يعدو أن يكون عبارة عن مجموعة من النصائح للحاكم، لكي يثبت الحكم، ويقضي على سلطة البابوات، ومنادياً بفصل السياسة عن الدين، وعن الأخلاق، وهو كتاب لا يخرج عن نصائح في فن الحكم، والوسائل التي تؤدي لقوة الدولة والحكم، وتوحيد إيطاليا، والسياسة التي تستطيع أن تحقق أهدافها وغاياتها، والأخطاء التي تؤدي لانحدار الحكم. ولعل أبرز ما في هذا الكتاب التركيز على الوسائل العسكرية والسياسية لحكم قوي، والغاية والهدف هو الحكم، وإيطاليا الموحدة، وما دون ذلك يكون في خدمة هذا الهدف. كتاباته وفلسفته تعتبر أسساً لنظرية القوة والواقعية التي تحكم السلوك السياسي للعديد من الدول، التي لا تؤمن إلا بالقوة للحفاظ على أهدافها ومآربها التوسعية على حساب غيرها، وأفكاره ليست قاصرة على الحالة السياسية عندنا فقط، بل تأخذ بها حتى الدول التي تتنادى بالديمقراطية، وعلى مستوى المتنافسين للحكم، كما الحال الآن في المعركة الشرسة للتنافس على انتخابات الرئاسة الأمريكية. فالمرشحون يلجأون لكل ما كتبه ميكافيللي، من أجل الفوز، ولديهم الغاية تبرر الوسيلة، المهم هو الحكم والوصول إلى البيت الأبيض، ولو على حساب الأخلاق، والكذب، والمبالغة والنفاق الشديد، كأن كتابات ميكافيللي حاضرة في تصريحات هؤلاء المتنافسين. فجيب بوش يسعى لتثبيت توارث السلطة، وتثبيت التقاليد، وفي هذا يقول ميكافيللي: إذا كان الأمير في وضع عادي فإنه سيبقي نفسه دائماً في هذه الحالة، إلا إذا ظهرت قوة استثنائية تحرمه من هذا الوضع. واعتماد الكثير من المرشحين الآخرين على الأثرياء والأغنياء هو ما سيجعلهم تحت تأثيرهم حتى وهم في الحكم. وكما يقول ميكافيللي سيجعلهم غير قادرين على اتخاذ القرار السليم، وهي الحالة نفسها التي تعيشها الولايات المتحدة، والتي تتميز بقوة اللوبيات ودورها في القرار الرسمي. وميكافيللي يعتبر ذلك من أسباب انحدار وضعف الحاكم، وسبباً للفساد السياسي الأخلاقي. ويحذر من هذه الظاهرة، ظاهرة تبعية الحاكم للغير، ويطالب بأن يعتمد على نفسه. ومن المظاهر التي نقدها ميكافيللي ربط السياسة بالدين، والاعتماد على كسب أصوات الناخبين بتوظيف الدين أو الحماسة الدينية، كما يظهر ذلك في تصريحات المرشح الجمهوري للرئاسة الأمريكية دونالد ترامب. ميكافيللي نادى بالفصل بين السياسة والدين، وأيد فكرة الحاكم أو القائد المبدع، والاعتماد على الشعب أو تبني مبدأ الشعبوية لإثارة الحماسة. إذا كان هذا هو حال أفكار ميكافيللي في دولة ديمقراطية مثل الولايات المتحدة، فما بالنا في الحياة السياسية التي تسود دولنا ومجتمعاتنا، فكل أفكاره وفلسفته تطبق، وقد توظف بطريقة غير صحيحة، لأن الإفراط في التمسك بالحكم والحفاظ عليه بكل وسائل القوة الصلبة والناعمة بلغة العصر، بعيداً عن الشعب، قد لا يكون هو الهدف في حد ذاته، فالهدف من السياسة في رأيه هو المحافظة على القوة السياسية وزيادتها، والمعيار عنده هو نجاحها في تحقيق هذا الهدف من دون الأخذ في الاعتبار ما إذا كانت جائرة أو غير جائرة، المهم هو نجاح هذه السياسة. فيقول: على أنه خير للأمير أن يستغل من الصفات ما يشاء في سبيل رفعته، غير ناظر لقيمة أخلاقية أو دينية. ومن المفارقات العجيبة في أفكاره توظيفها حتى من قبل الجماعات التي تسعى للحكم بكل وسائل القتل والتشدد، مثل الجماعات الإرهابية التي تنتشر الآن، هم يطبقون مصطلح الغاية تبرر الوسيلة، لكن بتوظيف معاكس للدين. وأخيراً عنده الغاية تتمثل في ازدهار الدولة وعظمتها، وأن هذه الغاية تتجاوز كل معايير الخير والشر، وهنا التمييز بين المستوى الفردي للأخلاق ومستوى الحكم والدولة. فللوصول لغرض سياسي وهو الحكم والدولة القوية يبيح عنده كل الوسائل، بما فيها القتل والكذب، فاستعمال الوسائل اللاأخلاقية في الحفاظ على الحكم مباحة، لكن الحاكم الذكي عليه استعمال ذلك بدهاء وذكاء. إنها سياسة واضحة حولنا، ونلمسها بشكل يومي. ولعل هذه السياسة هي التي ألصقت الصفة الشريرة في كتاباته، خصوصاً الغاية تبرر الوسيلة. وليس معنى ذلك المبالغة في ما كتب، فميكافيللي لم يكن فاسداً، بل كان رقيقاً ويقدر الأشياء الجميلة، وإنما كان همه الفصل بين السياسة والأخلاق والدين، لتكون السياسة غاية في حد ذاتها، ومؤسسة لعلم مستقل له قوانينه. وهو وإن انكر الأخلاق وطالب بفصل السياسة عن الدين، لكنه لم يلغ دورهما من الحياة الفردية والعامة، ولكنه خيار الحكم القوي الذي يحفظ الجميع. drnagish@gmail.com