بمبادرة من مساعد وزير الداخلية مدير الأمن بمحافظة سوهاج المصرية اللواء أحمد أبوالفتوح، نظمت جمعية المصالحات وفض النزاعات في شهر يناير/كانون الثاني 2016 أول مؤتمر شعبي يقام في مدينة طهطا بمحافظة سوهاج يهدف لإشاعة ثقافة المصالحات ونبذ الخصومات وأعمال الثأر، وجعل محافظة سوهاج، وهي إحدى محافظات صعيد مصر الجنوبي (أسيوط، قنا، سوهاج، الأقصر، أسوان)، خالية من الثأر والدم طوال عام 2016، من خلال إنهاء الخصومات الثأرية التي مازالت عالقة عبر تنفيذ الأحكام الصادرة بشأنها وسرعة القبض على المطلوبين، وفحص الخصومة وتحديد وضعها القانوني والشرعي فيما إذا كانت تندرج ضمن القتل الخطأ أو شبه الخطأ أو العمد، والدفع بالعُمَد والمشايخ وعلماء الدين وأصحاب الرأي لإقناع الطرفين بقبول شرع الله الذي يبدأ بالعفو وينتهي بقبول الدية. هذه قضية فرعية من مئات القضايا المتفرعة عن الاختلالات الأساسية، الجوهرية إن شئتم، التي تعتور هياكل المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية الحاكمة في عالمنا العربي، أي التي تحكم علاقاتنا الإنتاجية وعلاقاتنا المجتمعية، في اتصال ذلك خصوصاً بعلاقات الملكية والتموضعات الفئوية الاجتماعية، التاريخية والحداثية الجارية، بالنسبة للحيازات (الأصول الرأسمالية الثابتة والمتغيرة)، ولعملية التراكم الرأسمالي ومصادره. من الواضح أن الذي دفع القوى الأمنية في إحدى أصعب مناطق الأطراف في مصر، وهي هنا مدينة طهطا الواقعة على الضفة الغربية لنهر النيل التي تعتبر من أكبر مدن محافظة سوهاج من حيث عدد السكان (يقارب المليون نسمة)، والتي تحل ثانيةً بعد دمياط في تصنيع الأثاث المنزلي - للقيام بهذه المبادرة السلمية، هو استشعارها لخطر داهم وحال متمثلة في تضخم فقاعة الشواهد الدالة على ارتفاع فرص تحول منسوب القضايا الثأرية المتزايدة في الإقليم الى حرب عائلات وعشائر وقبائل تنذر بانهيار المجتمع المحلي في المحافظة وفي محافظات الصعيد الأخرى المتصلة بوشائج القربى والنسب مع بعضها بعضا، وتدهور أحوال الأجيال الشابة الجديدة وضياع مستقبلها ومصيرها. إنما الثأر، الشخصي والعائلي والعشائري والقبائلي، هو مكون أصيل مغروس في أنساق القيم والتقاليد الموروثة منذ أمد بعيد، جذوره غائرة ومترسخة في أعماق البنية الفيزيائية للوعي الفردي والوعي الجمعي ومخيالهما، واللذين يؤمنهما خزين تشكيلة العصبيات التي مازالت عصية على الذوبان في مجرى السياق العام للتطور الحضاري بالغ العِظَم للجنس البشري، فغدا من عاداته القديمة المتآلفة مع هذا التطور. وقد شب الأقدمون على قيام أولياء الدم أقارب القتيل بقتل القاتل نفسه أو قتل أحد أقاربه انتقاماً لأنفسهم دونما انتظار لقيام الدولة، قديمها وحديثها، بدورها الأمني والقضائي وأدواتها الزجرية. وقد يكون اليمن وصعيد مصر النموذجان الأكثر بروزا وتمظهراً لبقايا تلك العصبيات النافرة في الشرق العنيد، حيث مازال يُعمل بتقاليده ومدونات سلوكه المتبعة. ولربما اكتسب صعيد مصر هذه العادة من القبائل اليمنية المهاجرة إبان عصر الفتوحات الإسلامية الأولى. ومن تقاليده ومدونات سلوكه تلك، السائدة حتى اليوم في صعيد مصر أن المطالبة بالثأر لها ضوابط معروفة، فالأبناء هم الأحق بالقصاص لدم أبيهم، يليهم الأخوة الأشقاء، فالأخوة غير الأشقاء. وإذا لم يكن للقتيل أبناء أو إخوة، فحق المطالبة بالدم ينتقل إلى أبناء العم الأشقاء، ومنهم إلى أبناء العمومة غير الأشقاء. والثأر في الصعيد لا يلزم سوى أقارب الدم، أي من ناحية الأب، ولا علاقة لأقارب الأم بعملية الثأر، وإن كان الأمر لا يخلو من الدعم والمساعدة. كما أن حق الثأر لا يسقط بالتقادم، حتى لو ظل القاتل سنوات طويلة مختفياً أو خلف القضبان. فالسجن لا يعتبر هنا بديلاً للثأر، فحق الدولة غير حق ذوي القتيل، والصعايدة كما اليمنيون لا يكادون يفارقون أسلحتهم الشخصية إلا حين يخلدون للنوم، ولا يفرطون فيها حتى حين تضيق عليهم سبل العيش، وهم يعلمون أبناءهم ما إن يبلغوا العاشرة كيفية استخدام السلاح، لأن العز في أفواه البنادق، كما يقولون. وعلى ذلك فإن من الصعب القفز على معطيات هذا الواقع غير الصديق تماماً للثقافة الجديدة التي أشادتها المجتمعات البشرية عبر قرون من الصراعات المريرة وأثمانها الباهظة. فقضية بهذا الجذر العميق والتعقيد يصعب بالتأكيد معالجتها بمثل هذا الارتجال الاحتفالي، مهما خلُصت النوايا ومهما أُغدق على هذا التوجه، الحميد بالتأكيد، من فيض العواطف والحماس، الذي هو لحظي سرعان ما سيذروه الانصراف للانشغالات التي تفرضها التقافزات العشوائية لسلم أولويات العمل اليومي، ما لم يُرفد هذا العزم الظاهر بآلية تنفيذية ثابتة، جادة ومدروسة، من أُولى سمات جديتها تخصيص الموارد المالية والبشرية المناسبة لها، ومسطرة إجرائية لمتابعتها ومحاسبتها على حصاد أدائها الذي يجب أن يأخذ في الحسبان الوقائع الظاهرة، وغير الظاهرة، لمعوقات إنجاز خطة فريق العمل المكلف بإنفاذها، وفي مقدمها ضعف أداء جهاز القضاء فيما خص تحقيق الإنصاف والعدالة، والفساد والرشوة والمحسوبية، وضعف تطبيق سلطة القانون على الجميع دون أية استثناءات مهما كانت إلحاحات مراكز القوى التي تقف خلفها، والتسييس والتوظيف والاستغلال السياسي والديني والاجتماعي للنفرات العصبية، والإهمال التاريخي المتراكم لظاهرة حيازة وحمل السلاح. ولكن وعلى أهمية مفاعيل تلك الخطة الإجرائية المقترحة، فإن الأهم من كل ذلك والذي يجب أن يواكب العمل الإجرائي، هو القيام بعمل تربوي يرد بقوة على تحدي ثقافة الثأر ويستثمر ويعيد بعث الجوانب المشرقة التي أنتجتها محافظات الصعيد المصري، مثل المعلم البارز رفاعة رافع الطهطاوي. (1801-1873)، أحد رواد عصر النهضة العلمية والتعليمية والثقافية والإعلامية ومحو الأمية في مصر في عهد محمد علي باشا، ورجل الأعمال المعروف المهندس نجيب أنسي ساويرس (مواليد 1955) الذي تبرع بمبلغ 3 مليارات جنيه مصري لصالح صندوق تحيا مصر، وغيرهما على سبيل المثال لا الحصر، في حالة مدينة طهطا التي نحن بصددها كنموذج. alsayyadm@yahoo.com