بدا كأن الأطراف المشاركة في مؤتمر جنيف 3 كانت ذاهبة رغماً عنها، ولم تكن جاهزة للحوار، أو أنها وعدت بضمانات لا يمكن تنفيذها على أرض الواقع، ولهذا سارع المبعوث الدولي دي ميستورا إلى تعليق المفاوضات حتى 25 الجاري على أمل منح المساعدات الإنسانية فرصة للوصول إلى الأماكن المحاصرة من النظام وحلفائه. منذ البدء، كان ترتيب مؤتمر جنيف شاقاً فاستبعدت أطراف سورية معارضة غير متهمة بالإرهاب، كالمعارضة ذات الصلة بمصر، وأعطيت قوى غير مؤثرة ميدانياً أكبر من حجمها، كما أن الروس لم يخففوا من حدة قصفهم الجوي، بل كثفوه وحققوا مكاسب على الأرض، ورفض الروس نداءات بوقف القصف، واتهمت واشنطن موسكو بعرقلة مؤتمر جنيف باستمرار القصف الجوي ومنع وصول المساعدات الإنسانية للمناطق المحاصرة. لكن موسكو ردت بالقول إن استمرار تهريب المقاتلين والسلاح من تركيا يجب أن يتوقف كشرط لوقف القصف. المشهد السوري عاد الآن إلى نقطة الصفر، وفي حالة عدم تحقيق أي أمل باستئناف المباحثات في جنيف في الموعد الذي حدده المبعوث الدولي، فالوضع يزداد سوءاً، إذ إن كل المعطيات تنبئ بتوجه الأطراف كلها إلى التصعيد العسكري في موازاة الجهود السياسية. ذلك أن الأطراف المتقاتلة على الأرض تحاول تحقيق مكاسب عسكرية ميدانية تحسن من وضعها التفاوضي، بالنظر إلى المكاسب العسكرية التي حققها النظام وحلفاؤه الروس، حيث إن الروس مصممون على حسم معركة حلب وتضييق الخناق على المعارضة فيها، وقطع الإمداد عنها من ناحية الحدود التركية، فيما لم تخرج المعارضة بأي جديد أو استراتيجية موحدة لمواجهة الانهيار المحتمل. فالروس يريدون توسيع رقعة السيطرة على الحدود مع تركيا لطرد المعارضة من ذلك الجيب ومحيطه، كما قال الوزير البريطاني فيليب هاموند، الذي اتهم موسكو بقصف أعداء تنظيم داعش وأعداء النظام معاً. وردت موسكو بلسان الناطق الرسمي ديمتري بيسكوف بالقول إن أقوال الوزير البريطاني لا يمكن أخذها على محمل الجد. لكن اتهامات واشنطن وألمانيا وغيرهما من دول الغرب لموسكو بإفشال "جنيف 3" تشير إلى أن هناك موقفاً غربياً موحداً ضد السياسة الروسية، وهذا يعني أن الأسابيع المقبلة ستشهد تطورات عسكرية مكثفة على الجبهة الشمالية السورية قرب الحدود مع تركيا، ما يعني أن احتمالات عدم التئام "جنيف 3" تبقى واردة، إذ إن كفة النظام هي الراجحة حالياً. ثمة توقعات دبلوماسية أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سيعمد إلى انتهاز الفرصة ويقلب الموازين رأساً على عقب بتدخل عسكري قوي في سوريا يعيد الاعتبار للموقف التركي المؤثر هناك، وكذلك للانتقام من الأكراد، ولتأكيد تصميمه على تحالفه مع دول إقليمية بضرورة إسقاط رأس النظام السوري. فالرئيس التركي منيت سياسته في سوريا بالفشل بعد فقدانه الأمل في إقامة منطقة عازلة آمنة على الحدود تتيح له التأثير في المسألة السورية، ولم يحظ بدعم غربي في مواجهته مع روسيا بعد إسقاط الطائرة الروسية، كما أن محاولته جني مكاسب أمنية واقتصادية من خلال إعادة العلاقات مع الكيان الإسرائيلي باءت بالفشل، حيث وثق الإسرائيليون علاقتهم مع اليونان وقبرص اليونانية بشأن استكشاف وتصدير الغاز من البحر المتوسط، بينما كان أردوغان يراهن على إنجاز صفقة غاز لتكون بلاده ميناء التصدير لأوروبا، وهو ما رفضته إسرائيل. بل ظلت أنقرة تتعرض لضغوط أمريكية لإعادة علاقاتها مع تل أبيب أثناء زيارة نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن لأنقرة مؤخراً، إلا انه تقبل وجهة نظر تركيا بشأن سوريا، وأكد أن الخيار العسكري في سوريا ما زال قائماً، وهو ما أراد أردوغان سماعه لأنه يعد بدعم إقليمي لتدخل عسكري لدعم المعارضة رداً على التصعيد الروسي - الإيراني. فالمعلومات تشير إلى أن إيران كثفت من تواجدها في سوريا، وأرسلت المزيد من القوات عبر العراق، وكذلك روسيا، ما يعني أن هناك معركة قاسية ستبدأ في الشهر المقبل، ولهذا فإن القوى المعارضة السورية زادت من إلحاحها على الدول الداعمة لها بضرورة تزويدها بالأسلحة النوعية ضد الدبابات والمضادات الجوية لعرقلة القصف الجوي الروسي الذي رجح كفة الميزان العسكري لمصلحة النظام حتى الآن. فقلب الوضع العسكري في سوريا بات أمراً ملحاً بالنسبة للغرب، وكذلك تركيا، لأن أردوغان لا يريد إطالة أمد الحرب ضد حزب العمال الكردي في جنوب شرق تركيا، ويعتقد أن التدخل في سوريا سيخفف العبء عليه داخلياً وينقل المعركة إلى داخل سوريا وفي حضن روسيا. ولكن السؤال إلى أي مدى يمكن للغرب أن يدعم أردوغان ضد الروس؟ وإلى أي مدى يمكن لإيران أن تحتمل تدخلاً عسكرياً تركياً في سوريا؟ كلها تساؤلات حائرة تنتظر أسابيع للإجابة عنها. ولعله من سخريات القدر أن تنظيم داعش هو الوحيد الذي يراقب خصومه وهم يتقاتلون ولم يعد من ضمن أولوياتهم. hafezbargo@hotmail.com