< استفحلت ظاهرة الإرهاب والعنف المتشدد في شكل تنظيماته التي تمثل «داعش» أبلغ تعبير عنها، وفي سلوكياته الذي تعتبر مشاهد الحرق والذبح جانباً من تجلياتها، على رغم الإصرار العالمي المتزايد على نبذ هذا النوع من العنف، ونجاح الأوساط الشرعية في تعريته، إلا أن طرحاً مختلفاً يتحين فرصته في كل مرة؛ لإبداء مبررات سياسية وشرعية لهذا النوع من التشدد. «الحياة» تحاور عدداً من المهتمين بالطرح الشرعي والمطلعين على حال العنف والتشدد، لمحاولة البحث عن تفاصيل كامنة وراء قصة الخطاب الناعم في نقد «داعش» وأخواته. الكاتب الصحافي محمد العصيمي قال لـ«الحياة» إن هناك بالفعل عند بعضهم ما يمكن أن نسميه «خطاباً ناعماً» مع الإرهاب، هذا الخطاب نراه حين يطرح بعض الدعاة رأيهم بخجل تجاه التشدد أو حتى تجاه بعض التنظيمات الإرهابية، التي تستشري في العالم العربي في شكل غير مسبوق. وأضاف العصيمي: «هذا يعني أن هناك مدارس يقودها أشخاص يصرون إلى الآن على اعتبار أن ما يحدث من هذه التنظيمات جهاداً وليس إرهاباً.. وهي بالمناسبة مدارس قديمة وجديدة في آن». «وهنا، من وجهة نظري، تتبدى الإشكالية المتعلقة بتحديد المصطلحين بدقة. أي أن يعرف الناس على وجه اليقين، وهذه مسؤولية الدولة وأجهزتها التشريعية، ما هو بالضبط الجهاد وما هو الإرهاب؛ لكي يمكن قطع الطريق على من يدلس أو يُلبس من بعض الدعاة، أو لنقل بعض المحسوبين على الدعاة، على الشباب ويتخطفهم من بيوتهم وجامعاتهم ويرسلهم إلى الموت». وقال: «أنا شخصياً جادلت في أكثر من حوار تلفزيوني بعض الأسماء على أساس أن خطابهم الوعظي ينحو منحى خاطئاً وخطراً، حين يتحدثون للشباب والمراهقين في المملكة ويغرونهم أو يخدعونهم بأن ما يحدث في مصر أو سورية، أو غيرهما من الدول، من بعض التنظيمات الإرهابية هو جهاد، فيما النظام الرسمي والأمني للدولة يضع هذه التنظيمات مثل القاعدة وجماعة الإخوان وداعش والنصرة وغيرها على قائمة المنظمات الإرهابية، ويعتبر أن التنظيمات تهدد أمننا الوطني وسلمنا الاجتماعي». وتابع: «شهدنا في الفترة السابقة، بخاصة في فورة مكافحة وباء الإرهاب وسن تشريعات بصدده، بعض الخطباء الذين ينطلقون من المدارس التي سبق وأشرت إليها، يزايدون على الموقف الرسمي والاجتماعي في المملكة. وكان لا بد من أن تكون هناك وقفة حازمة معهم؛ لكي يبقوا ضمن السياق الوطني العام الذي يحفظ أمننا ويجنبنا مزالق الفتن التي وقعت فيها بعض المجتمعات العربية، وتعاني الآن ويلاتها، في صور بشعة من الطائفيات والتقاتل على الهوية المذهبية». وزاد: «لا بد، بطبيعة الحال وما يفرضه الواقع من حولنا، من أن يستمر هذا الجهد الوطني لوزارة الداخلية؛ لكي نقضي على كل الظواهر التي تؤيد بعض التنظيمات الإرهابية أو تناصرها بأية وسيلة، سواء أكانت هذه الوسيلة خطبة أم نصاً أو صورة من تلك النصوص والصور التي ينشط أصحابها على وسائل التواصل الاجتماعي. وكما تعلم فإن أعضاء خلية داعش التي تم القبض عليها أخيراً، تواصلت وبثت شرورها وسمومها عبر معرفات على «تويتر». ويبدي رأيه في موازاة الجهد الأمني الكبير والناجح: «ما زلنا في رأيي بحاجة إلى إطلاق مبادرات حقيقية وجادة في اتجاهات وقائية تقتلع جذور الإرهاب وتجفف منابعه. وتتمثل هذه الاتجاهات في الحواضن الفكرية والثقافية والإعلامية والتربوية والتعليمية التي تؤسس لوسطية دينية حقيقية وتعلي من شأن الانتماء إلى الدولة الوطنية والحفاظ على أمنها والدفاع عن حدودها، إضافة إلى تأمين الوظائف وسبل العيش الكريم للشباب وتقريبهم من دوائر التأثير والمشاركة في بناء وتنمية بلدهم؛ لكي يشعروا بأهميتهم وقيمتهم». ويستدرك: «إذا لم نفعل ذلك أعتقد بأن مواجهة الإرهاب لدينا ستطول وسترتفع كلفتها الوطنية والاجتماعية مستقبلاً، لأن المتربصين بشبابنا لن يكفوا عن محاولاتهم في توظيف كل الأساليب الممكنة وتوظيف كل الأسباب التي من شأنها التغرير بهؤلاء الشباب وتدمير حياتهم ومستقبلهم والإضرار بوطنهم ومجتمعهم». من جانبه، فإن الباحث الشرعي عبدالله العلويط ذكر بداية «أنه يجب أﻻ نستغرب ضعف مواجهة الإرهاب من التيار الديني بل العجيب لو واجهوه بقوة، فمثل هذا النوع من الرفض ﻻ يتطلب فقط وجود رفض ظاهري أو عدم رضا عن الفعل أو اشمئزاز من منظر الإرهاب. وقال العلويط: «يجب أن تكون هناك قناعة مطلقة ببشاعة الأصل الذي تنطلق منه هذه الأفعال، وهو القوة والعنف مع المخالف، والتي تتجلى في هذا الخطاب بعدة صور كقوله أن احتمالية الحرب مع الآخر قائمة، أو أن اﻷصل مع اﻵخر الحرب، وأن القوة مطلوبة للحاكم مع المخالفين له في الدين ولا بد من تغيير المنكر باليد، ولا بد من قمع أهل البدع، وأن الجهاد باقٍ باستثناء فترات هدنة يمنحها المسلمون أو حتى يأذن الإمام، فإذا رفض كل ذلك فإن خطابه المحارب للإرهاب سيكون صادقاً وقوياً ومؤثراً، فمن يقول إن الوقت لم يحن للجهاد «مجرد توقيت»، وأن القوة العسكرية كافية للهجوم على غير المسلمين إذا امتلكناها ﻻ يمكن أن ننتظر منه محاربة حقيقية للإرهاب». ويضيف: «لا بد من أن يرفض هذا الخطاب الوسائل التي تساعد على تهيج هذه المبادئ كالخطابة والشعارات لأنها تهيج الدعوة للإرهاب. بعد كل ذلك يمكن القول أن خطابهم سوف يتغير وهذا كله في حال صدقهم في إرادة التغيير أما إذا لم يكونوا صادقين ويتظاهرون بالرفض فإن الحال سيكون أسوأ». ويختم: «هناك عامل مهم يجب ألا نغفله، وهو خشية أحدهم من الدخول لمنطقة العلمنة، فهو يراوح مكانه بخطاب رتيب؛ خوفاً من أن يرمى بالعلمنة، ومن ثم قد يخسر مركزاً اجتماعياً مرموقاً بالنسبة إليه إذ ﻻ يكاد يوجد فرق في الثقافة الشعبية لدينا بين من يحارب العنف بقوة وبين العلمانية، لكن قد توجد منطقة وسطى بينهما إذا كانت المحاربة باردة، وأيضاً يمكن أن يضاف لأسباب ضعف الخطاب أنه ما زال يراها أفعالاً جنائية فهو لا يشعر بالخطر، ولذا يتوجه للفعل ﻻ الفكر المنبثق عنه، أي أن القتل إرهاب بالنسبة إليه، كالقتل جناية. المشوح: «الغلاة» يحتاجون إلى الوضوح والتحديد في الخطاب < لفت رئيس حملة السكينة التابعة لوزارة الشؤون الإسلامية عبدالمنعم المشوح إلى حاجة الخطاب المُوجّه إلى الغلاة أو المتعاطفين معهم إلى الوضوح والتحديد والتعيين، وإلى التنوُّع في مستويات الخطاب، فالهدف هو الإصلاح والاستصلاح وبيان الحق وليس الهدف هو مجرد اتخاذ موقف أو تقريع الخصم . وقال: «الوضوح في بيان الموقف من الجماعات الإرهابية وعناصرها وجرائمها أمانة يجب أن نستحضرها، وقد ضلّ فئام من الشباب بسبب خطابات فئوية وإعلامية ونخبوية عائمة أو عدائية، فهناك للأسف من يفهم الوضوح بأنك تتجاوز الحد الشرعي والأدبي في الخطاب، وهناك من يفهم الوضوح أنك تتجرأ على كُل المخالفين لمنهجك بالعداء والاستعداء، وهناك من يفهم الوضوح أنك تجُرّ المجتمع إلى معركة تبادل اتهامات وتصنيفات وتصفية حسابات، والضحية هو مشروع إصلاح واستصلاح المنحرفين أو تحصين الشباب، فلا يُمكن أن تطرح مشروعاً فكرياً للتحصين من دون محور العدل والقسط والرحمة مع بيان الحق بشكل صحيح». وأضاف: «إن الخطاب الذي نأمل أن يُحدث تغييراً يجب أن يكون شمولياً مُتكاملاً، يدخل فيه الخطاب الشرعي والتربوي والعقلي والعاطفي وكذلك الأساليب الإعلامية في عرض مُفردات الخطاب، هذه الأقسام، جميعها مهمة وجميعها ذات علاقة، وجميعها يجب أن تتعاضد في بناء خطاب واع ومتوازن ومؤثر، والضعف في أي قسم من الأقسام يُحدثُ فراغاً، ومن ثم ثغرة تمر من خلالها خطابات غير واعية وغير متوازنة قد تكون مبنية على حسن نية، لكنها تُصلِح في جانب وتفتح مشكلات في جوانب أخرى». كما أكد أهمية التخصص في المُعالجات وفي توجيه الخطابات، وإدراك الفروقات في أنواع الخطابات الموجّهة: فالفتوى العامة لها ضوابطها وأحكامها وأوصافها، وتختلف عن الفتوى الخاصة الفردية، وتختلف عن الخطبة عن الموعظة عن التوجيه العابر وكذلك تختلف عن مجال الخطاب التربوي عن الخطاب الإعلامي. والجميع من المهم أن يكون ملتزماً بالقواعد والضوابط التي تحقق الهدف ولا تُغرق المجتمع في متاهات وصراعات فكرية. وختم المشوح بقوله: «أعتقد بأن المجتمع أصبح لديه وعي أكثر، والنخب كذلك أدركت خطورة عدم الانضباط في الخطاب الموجه لمعالجة ومواجهة الإرهاب، وإن كنا ما زلنا بحاجة إلى نهضة شاملة في برامجنا الفكرية والمعرفية ضد الإرهاب». وأشار إلى «أننا في السعودية نمتلك مخزوناً ومحتوى معرفياً وشرعياً وفكرياً ثرياً في مواجهة ومعالجة الإرهاب هذا المخزون يتطلب جهداً في تفكيكه وإيصاله للمجتمع ولاسيما للشباب، وربما هذه مهمة الإعلام بأنواعه».