بالرغم من الاضطرابات والكوارث وعمليات القتل والتشريد وسحب دخان الحروب التي لا تزال تملأ أجواء المنطقة، تبرز على الساحة السياسية معالم جديدة في العلاقات بين شعوب ودول المنطقة، هذه المعالم تشير إلى ضرورة الأخذ بمعايير التعايش السلمي بين الدول بغض النظر عن اختلاف أنظمتها السياسية والاجتماعية والاحتكام في خلافاتها عند الضرورة إلى الهيئات الأممية المعترف بها من جميع دول العالم، صحيح أن هذه المعالم قد أصبحت اليوم نظاماً متكاملاً ومعتمداً ومعمولاً به بين بلدان العالم المتقدم وأكثرية البلدان النامية، إلا أن بلداننا تخلفت كثيراً ولأسباب داخلية وخارجية عن الأخذ بها في الممارسة فضلاً عما لحق بها من تشويهات فرضتها ولا تزال تفرضها الثقافة السائدة في بلداننا. ذلك أن جوهر مفهوم التعايش السلمي بين الدول يقوم على سياسة تجزئة المشاكل بين الدول المعنية وتحييد المشاكل المستعصية والتعاون في ما هو مشترك. هذه السياسة التي قد تبدو سهلة ومقبولة على المستوى النظري، لا تعمل في الواقع لأنها تقترح مشاعر وسلوكا يقوم على الخصومة بدلاً من العداء في علاقات كل دولة مع الدول الأخرى. هذا ما يستدعي بدوره استبدال مفاهيم راسخة في أذهان الحكومات والدول حول معاني الوفاق والخصومة والعداء. الدولة الوحيدة الشاذة عن هذا السياق هي دولة إسرائيل المستعمرة والتي لا تزال تنفذ سياسة فصل عنصري بامتياز على الشعب الفلسطيني الذي يقاوم ببسالة وشجاعة نادرة سياسة إسرائيل الإجرامية. وإذا كانت سياسة التعايش السلمي بين الدول قد ترسخت وأصبحت في خدمة مشاريع التنمية والحياة الكريمة بين أكثرية دول العالم والتي لا يجمع بين العديد من شعوبها سوى التعاضد الإنساني، فإن الفضاءات المشتركة على مستوى المشاعر والتاريخ والجغرافيا والموارد الطبيعية والبشرية توفر أكثر من أي مكان آخر لبلداننا وشعوبنا فرصاً هائلة للتعايش والبناء. قد يسأل البعض بشكل مشروع عن هذه المعالم التي يجري الحديث عنها وتدعو للتفاؤل؟ لن نذهب بعيداً وسنجد بعضاً منها في مسيرة بلدان مجلس التعاون لدول الخليج العربية في السنوات الأخيرة. قد يبدو الاختيار غير موفق نظراً لما يبدو من خلافات ظاهرية بين بلدان هذه المنظومة التي تملك أكثر من غيرها فرصاً للتوافق لكن العلاقات البينية وعلاقاتها كمنظومة ليست في نظر البعض على ما يرام. وإذا كان السلبي له ما يبرره، فإن التفاؤل له ما يبرره. بلدان الخليج هي دول مستقلة وكاملة العضوية في كل الهيئات الدولية وعلى رأسها الجمعية العامة للأمم المتحدة وما يتفرع منها من هيئات. وعليه فلا بد من أن يكون لكل دولة حق ممارسة سيادتها الوطنية وفق ما يخدم شعبها ولا يتعارض مع سياسة المجلس بشكل خطير. يعرف الجميع أن حكومات دول المجلس تجاوزت بصعوبة مشاكلها في الماضي في أكثر من مناسبة. اليوم وبالرغم من أن هذه البلدان تمر بظروف حرب تمس بدرجات متفاوتة أمنها الوطني وأمن بلدان الخليج كافة، وبالرغم من حدة سياقات الوضع لا تزال العلاقات البينية تعمل بشكل طبيعي بين حكومات وشعوب المجلس واللقاءات الماراثونية بين القادة تسير وتوحي بأن جهود الاحتواء والتفاهم تؤخذ على محمل الجد أكثر من أي وقت مضى. الأمر نفسه يسير بنفس الرؤية فيما يتعلق بالعلاقات العربية - العربية. اختلاف وجهات النظر حول التهديد الإيراني للأمن القومي العربي والأمن الوطني السعودي والخليجي بخاصة لا يستدعي العداء والعلاقات مع العراق مثلاً تتطور باتجاه التعايش والتعاون في مجالات السلم والتنمية. وفي مجال العلاقات العربية مع العالم، يبدو أن نهج الحوار واستبعاد العداء والقبول بالخصومة السلمية يمثل ميلاً متنامياً. يقول السياسي والكاتب التركي أرشد هورمزلو في مقال له في جريدة الحياة حول اجتماعات ملتقى الحوار العربي التركي الأخيرة (قلنا دائما ان الحوار هو الوسيلة الفضلى للوصول إلى نتائج تسر طرفي الحوار. ومن هذا المنطلق قام عدد من العرب والأتراك بتأسيس منظومة للحوار هدفها التخلص من الدعوات التحريضية والولوج إلى طروحات تتبنى الألفة والتفاهم بدل الشك والكره. كان الهدف أن نَفهم ونُفهم «بفتح النون وضمها»).. وهكذا كان .