الكلام الذي صدر الأسبوع الماضي عن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون غير مسبوق في وضوحه وتحديده ومباشرته، والأهم في مضمونه ودلالاته. فلأول مرة يخرج عن الأمين العام للأمم المتحدة تحديداً كلاماً قاطعاً وصريحاً بأن الاحتلال الإسرائيلي، واستمراره لخمسة عقود، من دون بادرة واقعية تشير إلى احتمال انتهائه، هو المسؤول الأساسي عن كل ما يحصل من صراعات وانتهاكات واعتداءات تتعلق بالقضية الفلسطينية وحقوق أهلها أو ما يعرف بلغة السياسة الدولية بالصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. جاء ذلك حين قال بان كي مون إن الاحتلال الإسرائيلي هو السبب في موجة الإرهاب الحالية. وأوضح ذلك وأكده حين قال الغضب الذي نراه اليوم نتيجة خمسة عقود من الاحتلال الإسرائيلي، جراء الخوف والذل والإحباط وعدم ثقة الشباب الفلسطيني المحبط من عدم الوفاء بالوعود. ثم وضع هذا القول في إطاره السياسي والمنطقي حين قال لقد أثبتت الشعوب المضطهدة على مر العصور أن من الطبيعة الإنسانية الرد على الاحتلال، الذي غالباً ما يكون حاضنة قوية للكراهية. ولم يترك كلامه في حدود المواقف المبدئية العامة، بل حدد موقفاً دقيقاً ومهماً تجاه تفصيلين يتماهيان كلياً مع الاحتلال ويشكلان أبرز نتائجه، وأبرز دوافع التمسك باستمراره في نفس الوقت التفصيل الأول، هو الاستيطان ودلالاته ونتائجه، حين قال بوضوح وصوابية إن مواصلة الاستيطان يمثل إهانة للشعب الفلسطيني والمجتمع الدولي ويثير بحق أسئلة جوهرية عن التزام إسرائيل بحل الدولتين. وأعرب عن انزعاجه الشديد من تقارير عن موافقة الحكومة الإسرائيلية على خطط بناء أكثر من 1500 وحدة سكنية جديدة في نفس التوقيت أعلنت حكومة الاحتلال قرارها بضم 1500 دونم من أراضي منطقة الغور المحتلة جنوب أريحا وإعلانها أراضي حكومية. ولفت الأمين العام إلى أن بناء المستوطنات أمر غير شرعي في الضفة الغربية المحتلة، مما يزيد من حدة التوتر ويقوض أي احتمالات على طريق التسوية السياسية. التفصيل الثاني، كان حول القدس ورفض سياسات إسرائيل بخصوصها، فقد قال منذ أن ضمت إسرائيل القدس الشرقية عام 1967 وهي تمارس سياسة شاملة لزيادة قبضتها على المدينة وإضعاف الوجود الفلسطيني هناك . لافتاً إلى أن إسرائيل تمارس في القدس سياسات تطهير عرقي سيؤدي إلى طرد العرب عن البلدة... إذاً، بان كي مون بأقواله فتح معركة مع إسرائيل تحت عنوان الاحتلال بالدرجة الأولى. وحول لا شرعية ضمها القدس وإعلانها عاصمة أبدية لدولتها، ولا شرعية الاستيطان، من منطلق أن أراضي الضفة ومنها أراضي القدس هي، حسب القانون الدولي، أراض محتلة لا يجوز التصرف بها بأي شكل. وفتح الباب أمام عدد من العناوين التي يمكن أخذها إلى محاكم دولية مختصة مثل حديثه عن التطهير العرقي. كما سلط الضوء على واقع الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال وعلى حقه في دولة مستقلة حسب القرارات الدولية. كل ذلك مقابل إدانته دولة الاحتلال إسرائيل وتحميلها المسؤولية. صحيح أن العلاقة بين المنظمة الدولية ودولة الاحتلال مرت بحالات من الشد والتشاحن والاختلاف، وبالتحديد حول القضية الفلسطينية وتنصل دولة الاحتلال من تنفيذ القرارات الكثيرة التي اتخذتها هيئات المجتمع الدولي لحلها، ولكن العلاقة نادراً ما وصلت إلى هذا المستوى (ربما لم تصله أبداً). هذه الأقوال لبان كي مون لم تأت من فراغ ولا جاءت معزولة، بل جاءت منسجمة مع السياق العام لحركة المجتمع الدولي التي تتبلور بسرعه شديدة حول عنوان أساسي هو رفض الاحتلال وعدم القبول باستمراره. وحول عناوين ناتجة عن الاحتلال: منها رفض الاستيطان والتوسع، ومنها رفض ضم القدس الشرقية والاعتداء على الأماكن المقدسة، ومنها رفض سياسات وممارسات التعدي على الحقوق وقمع الحريات والتمييز العنصري والقتل والاعتقال والتنكيل ضد أهل البلاد، وغيرها من العناوين التابعة. وجاءت الأقوال منسجمة مع التنامي المتسارع لقناعة المجتمع الدولي ومناداته بضرورة أن يكون للفلسطينيين دولتهم المستقلة، ومع تزايد الاعتراف بالدولة الفلسطينية كما قبلتها الأمم المتحدة. كما صبت الأقوال في نفس سياق واتجاه تنامي فعل وتأثير قوى المجتمع المدني ومنظماته، على المستوى الرسمي الدولي أو على المستوى الشعبي الوطني، وتعبيره الأبرز هو الانتشار الواسع لحركة المقاطعة الدولية وتنوع مجالاتها من الاقتصادية إلى الأكاديمية إلى الفنية إلى المجتمعية الشعبية. وهو ما يسبب قلقاً كبيراً لدولة الاحتلال. أقوال بان كي مون في هذا التوقيت جاءت لتكشف في جانب منها عن خروج أعداد متزايدة من الدول عن بيت الطاعة الأمريكي. لأن الممارسات الإسرائيلية لم يعد ممكنا السكوت عليها من جهة، واستشرافاً لحقيقة أن الإدارة الأمريكية لم تعد قابلة باستمرار تأمينها الحماية لدولة الاحتلال بنفس المدى والمقياس الذي ظلت تقوم به، وربما لم تعد راغبة في ذلك. إن ما ساعد في تشكيل السياق العام الموصوف لحركة المجتمع الدولي، وفي صدور أقوال بان كي مون بهذا التوقيت، هو درجة الفحش التي وصلتها ممارسات دولة الاحتلال في السنوات الأخيرة في كل المجالات، بالذات لجهة تغول استيطانها وجنون اعتدائها على القدس ومقدساتها، ومواقفها وممارساتها التي تؤكد بجلاء رفضها المبدئي والثابت لقيام دولة فلسطينية، ثم إفشالها لكل جهد لإنجاح حل الدولتين الذي يتبناه المجتمع الدولي. ولا شك أن الهبة الشعبية المباركة المستمرة منذ أكثر من مئة يوم لعبت دوراً مهماً وأساسياً في توقيت صدور أقوال بان كي مون وفي قوة ووضوح مضمونها، وفي فضح ممارسات دولة الاحتلال القمعية الفاشية وسياساتها العنصرية على الناس وحرياتهم وعلى مقدساتهم وأراضيهم. إسرائيل تدرك قبل وأكثر من غيرها، الحقائق المذكورة وتعي تبعاتها. ولأن العلاقة مع المجتمع الدولي ظلت ركناً أساسياً من أركان سياسات دولة الاحتلال، ولأنها وليدة قرار من المجتمع الدولي، ولأنه ظل الحائط الذي تستند عليه وتستقوي به... جاءت ردة فعلها على تصريحات بان كي مون هستيرية في رفضها وإدانتها والتشكيك في دوافعها، وبمشاركة كل القوى والأحزاب من اليمين واليسار ومن وسائل الإعلام. رئيس الوزراء نتنياهو اتهم الأمين العام بأن أقواله تشكل دعماً للإرهاب، وشكك بأن الأمم المتحدة فقدت حياديتها وقوتها الأخلاقية منذ زمن طويل وتصريحات الأمين العام لا تحسن أوضاعها. ساعد في هستيرية ردة فعل دولة الاحتلال أن أقوال الأمين العام جاءت مباشرة بعد أكثر من معركة خاضتها مع أطراف أخرى بنفس المحتوى تقريباً. بدءاً بالبرازيل ورفضها للسفير الاستيطاني، مروراً بالسويد واعترافها بدولة فلسطين ثم مطالبتها بالتحقيق في قانونية إجراءات القمع والإعدام الميداني الذي تقوم بها أجهزة دولة الاحتلال ضد المتظاهرين العزل من القاصرين وصغار السن، وصولاً إلى الاتحاد الأوروبي وقراراته بحق البضائع من المستوطنات الصهيونية إلى أسواق دوله، وتخوفاً من الموقف الذي تعلن عنه فرنسا حول نيتها الجادة تبني مبادرة لمؤتمر دولي لصالح حل الدولتين ونيتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية إذا لم ينجح هذا الحل. lenco85@hotmail.com