في وقت ترجح فيه كل المؤشرات إحتمال وصول أول سيدة إلى هرم السلطة في كبرى دول العالم ممثلة في الولايات المتحدة إلا إذا وقع حدث مزلزل يخلط الأوراق نرى أن حليفة واشنطون الصغرة في الشرق الأقصى (تايوان) قد سبقتها واختارت في السادس عشر من يناير الجاري السيدة تساي إينغ وين كأول رئيسة للجمهورية في تاريخها، ولتصبح هذه المرأة التي لم تبلغ الستين عاما بعد أول سيدة تتولى قيادة الأمة الصينية منذ الإمبراطورة وو شيتيان التي تولت السلطة في مطلع القرن الثامن الميلادي. وهكذا انضمت تايوان رسميا إلى قائمة الدول الآسيوية القريبة منها او البعيدة من تلك التي سبقتها في تسليم زعامتها إلى النساء عبر صناديق الانتخاب، وكانت آخرها نيبال مع وجود بورما على قائمة الانتظار. صحيح أن الانتخابات الرئاسية السابقة شهدت دخول سيدات تايوانيات إلى المعترك الانتخابي كمترشحات عن أحزابهن بما فيهن السيدة تساي نفسها التي ترشحت في انتخابات 2012 إلا أن الحظ لم يحالفهن بسبب النزعة الذكورية الشديدة للمجتمع التايواني الذي لا يحبذ رؤية النساء في مناصب الدولة الرفيعة. فما الذي حدث، وغير بالتالي هذه النزعة، وجعل أكثر من خمسة ملايين تايواني يمنحون صوتهم للحزب التقدمي المعارض بقيادة السيدة تساي فيرجحون فوزها بنسبة ساحقة على مرشح حزب الكومنتانغ الحاكم أريك شو الذي لم يحصد سوى ثلاثة ملايين صوت؟ إن إجابة السؤال السابق التي اتفق عليها معظم المحللين هي الخوف من المستقبل! وبعبارة أخرى عاقب الناخب التايواني حزب الكومنتانغ الحاكم بقيادة الرئيس المنتهية ولايته ما يينغ جيو على سياسات التقارب التي انتهجها منذ أكثر من ثمانية أعوام مع بكين، والتي لقيت معارضة الكثيرين من سكان الجزيرة البالغ تعدادهم 18 مليون نسمة ممن يخشون إبتلاع بلادهم من قبل شيوعيي بكين وحرمانهم من حرياتهم السياسية والدينية مثلما فعلوا مع شعب هونغ كونغ بعد استحواذهم على الأخيرة في عام 1997. كما عاقب التايوانيون الكومنتانغ على فشل وعوده القائلة بأن تحسن العلاقات مع الصين، صاحبة ثاني أقوى اقتصاد في العالم، سيساعد على انتشال الاقتصاد التايواني من ركوده. حيث إن المواطن التايواني العادي لم يستفد من سياسة الباب المفتوح مع بكين، وإنما الذي استفاد هم كبار رجال الأعمال والمؤسسات المالية الكبيرة فقط. والحقيقة أن فوز تساي، الأكاديمية الحاصلة على ماجستير القانون من الولايات المتحدة ودرجة الدكتوراه من كلية لندن للإقتصاد والعلوم السياسية، يمثل ضربة للجهود الرامية لتحسين العلاقات بين بكين وتايبيه والتي كان أوضح تجلياتها انعقاد القمة التاريخية الأولى بين زعيمي البلدين منذ انفصال تايوان عن الصين قبل 66 عاما. تلك القمة التي عقدت في سنغافورة في الاسبوع الأول من نوفمبر 2015، وتنبأ لها المراقبون النجاح والتكرار. أما لماذا يعني فوز تساي، المعجبة كثيرا بسيدة بريطانيا الحديدية مارغريت تاتشر، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ضربة للجهود المذكورة وإعادة لعقارب الساعة إلى الوراء فلإن تساي ضد فكرة أن تكون بلادها جزءا من الدولة الصينية أي على العكس من سياسات بكين المرتكزة على مبدأ أن تايوان إقليم متمرد ويجب أن تخضع لسيادة الصين، وأن أي محاولة من جانبها لإعلان الإستقلال سوف تواجه بالقوة. غير أنه بالعودة إلى ما فعله الرئيس التايواني الأسبق تشين شوي بيان، الذي كان أول شخصية تفوز برئاسة تايوان في عام 2000 من خارج حزب الكومنتانغ التاريخي، والذي ما كان ليصل إلى سدة الرئاسة لولا تبنيه شعار حق التايوانيين في اعلان دولتهم المستقلة عن الصين، نجد أن ما يقال عادة بحماس اثناء حملات الترشيح يتم ترشيحه وفلترته لاحقا ليصبح أخف وقعا وأكثر واقعية. فمثلا خلال ولايتين رئاسيتين للرئيس بيان لم يقرن الرجل وعوده بأفعال لجهة إعلان إستقلال البلاد، بل حافظ على الوضع القائم. ومن المرجح أن السيدة تساي، الإبنة الوحيدة في عائلة من 11 ولدا لرجل عصامي من مالكي ورش تصليح السيارات، سوف تفعل الشيء ذاته، أي أنها ستعمل كل ما في وسعها لبناء علاقات طيبة مع بكين، لكن ليس على حساب سيادة بلادها وكرامة شعبها. بل أنها أعلنت شيئا من هذا القبيل في أول تصريح لها بعد فوزها، حينما قالت: سوف نعمل على الحفاظ على الوضع الراهن من أجل السلام والإستقرار في مضيق تايوان، لتحقيق أكبر قدر من الفوائد للشعب التايواني، وأؤكد أن كلا الطرفين لديه مسئولية لإيجاد وسائل مقبولة للتعاون تستند إلى الكرامة والمعاملة بالمثل. وأخيرا فإن ما لا يعرفه الكثيرون عن هذه الامرأة، ذات الوجه الدائري والشعر القصير والنظارات الأنيقة، أنها تعيش وحيدة في شقة متواضعة داخل أحد أحياء تايبيه، ولا يقاسمها حياتها سوى قطتان، وتفتخر بأنها ترتدى نفس الزوج من الأحذية منذ أكثر من 16 عاما، ليس بخلا وإنما تشبها بالفئات الشعبية البسيطة. ولعل هذا خدمها كثيرا في سعيها لإقناع الناخبين بالاقتراع لها، بدلا من الاقتراع لمنافسيها الارستقراطيين.