الدكتورة رونة سيلع أكاديمية إسرائيلية نقدية متخصصة في صورة الفلسطينيين في الأرشيفات الإسرائيلية. فُصلت، قبل سنوات، من عملها، كأمينة في متحف حيفا البلدي بسبب إصرارها على عرض الرواية الفلسطينية وتبيان ما أحدثته الصهيونية من غُبن للفلسطينيين. وقد حدثتني في لقائنا الأخير عن «الفصل» الذي جاءها في المرة الأخيرة من الفلسطينيين تحديداً الذين أرادت من موقعها سرد روايتهم. فقد تيسّر لها، بعد انسداد باب الرزق أمامها، التعاقد مع أحد متاحف بروكسيل لعرض ما لم تتمكن من عرضه في إسرائيل بسبب مقاطعة المؤسسة الثقافية الإسرائيلية لها. وبعدما تنفست الصعداء وجاءها الفرج، تلكأ مدير المتحف البلجيكي في إنجاز المتفق عليه. ولمّا أصرّت على إتمام ما التزمت به (مشروع عروض صور نقدية لتعاطي الصهيونية مع الفلسطينيين) فوجئت بردّ لم تتوقعه. فقد اتضح أن مجموعة من الطلبة الفلسطينيين والمناصرين لهم في المتحف أعلنوا أنهم سيقومون بحملة ضد المتحف في حال واصل التعاقد مع الأكاديمية الإسرائيلية، وذلك بدعوى حملة مقاطعة إسرائيل! ولم يكن من رونة سيلع المتخصصة المناصرة للقضية الفلسطينية إلا أن تبلع الموسى! قصة رونة سيلع تتكرّر كل يوم مع يهود مناصرين للقضية الفلسطينية يناهضون الصهيونية أو ينتقدونها أو يناهضون سياسات الاحتلال والضمّ والاستيطان. فهم يتعرّضون اليوم لحملة ملاحقة ومضايقات يومية من المستوطنين ومن اليمين الإسرائيلي ومنظماته شبه العسكرية، ومن ملاحقة مُخبرين وجواسيس يعملون بأساليب اسنخباراتية وتمويل غير محدود. أما ذروة الشعور بالخسارة لدى هؤلاء (ونعرف عنادهم ومبدئيتهم ومثابرتهم على مناهضة الصهيونية ومفاعيلها أو الاحتلال وجرائمه) هو عندما يتعرّضون لمقاطعة فلسطينية أو عربية ضمن حملة المقاطعة الشاملة التي بدأت في 2005 ضمن ألـ (BDS Boycott, Divestment and Sanctions)، أو ضمن اجتهادات محليّة كسولة ترى في كل يهودي هدفاً للمقاطعة الحرفية. وهكذا، يجد هؤلاء المناضلون أنفسهم أمام واقع مُحرج (كما حصل مع سيلع) يتعرّضون فيه لمقاطعة مجتمعهم اليهودي ولمقاطعة المجتمع الفلسطيني الذي ينافحون عن قضيته وحقوقه! هذا تحديداً ينبغي أن يدفع القائمين على حملة المقاطعة الفلسطينية، التي يُراد أن تكون عالمية ومؤثّرة، إلى التفكير مجدداً في الحالات العبثية التي قد تنشأ عن مقاطعة شاملة غير انتقائية. فقد تسببت حتى الآن في ضرر معنوي وسياسي وأخلاقي للقضية الفلسطينية في أوساط اليهود المناهضين للصهيونية أو المناضلين ضد الاحتلال وسياسات الفصل العنصري. وكان من المفروض في رأينا أن لا يُزَجّوا خائبين في مقاطعة مزدوجة. مرة، من مجتمعهم الإسرائيلي اليهودي، بسبب مواقفهم ونضالاتهم المؤيّدة للحق الفلسطيني ومناهضة سياسات الفصل العنصري. ومرة، من سَدَنَة حملة المقاطعة الفلسطينية، بسبب كونهم يهوداً ومن إسرائيل! بمعنى أن القائمين على الحملة الفلسطينية (ولديهم كل الأسباب للقيام بها) ملزمون بإعادة النظر في «كسلهم» وبذل جهد أكبر في تحديد أهداف المقاطعة وعناوينها، وإلا فالصالح سيذهب بجريرة الطالح فتفقد استراتيجية المقاطعة بعض قوتها. نُشير في هذا السياق بقلق بالغ إلى أن اعتماد مبدأ الشمولية في المقاطعة كما هو حاصل في الآونة الأخيرة يُفضي في خطاب البعض وسلوكياته إلى توجهات عنصرية تخلط بين إسرائيل واليهود، بين مناهض للصهيونية أو ناقد لها ومستوطن ومحتلّ. وقد رأينا أن البعض عندنا بدأ يتحدث عن وجوب مقاطعة كل يهودي من دون اعتبار لمواقفه أو مواقعه أو من دون حساب الكلفة للشأن الفلسطيني الذي تتم المقاطعة باسمه. «لا نريد اللقاء مع يهود» أو «لن أشارك بسبب مشاركة بعض اليهود في النشاط»... مثل هذه الردود نسمعها أكثر وأكثر. ويدافع قائلوها عن موقفهم بأنهم ملتزمون بموقف حملة «BDS»! بمعنى أن خطاب الحملة، الضرورية في مبتدئها، تحوّل إلى عائق جدي أمام أي نشاط فلسطيني ـ يهودي ضد الاحتلال ومناهض لسياسات الفصل العنصري الإسرائيلية. هذا علماً أن هناك حاجة إلى توسيع مثل هذه الشراكات بخاصة أنها تجاوزت ضعفها وصارت شراكات متكافئة متساوية في مبناها وفي مكانة الشركاء الفلسطينيين واليهود فيها. كُشف النقاب في إسرائيل مؤخراً (بواسطة إحدى منظمات اليمين اليهودي التي تراقب نشاط منظمات اليسار وحقوق الإنسان ومجموعات النشاط المناهضة للصهيونية وسياسات الفصل العنصري) أن مجموعة من 550 إسرائيلياً برئاسة المدير العام لوزارة الخارجية سابقاً وسفير إسرائيل الأسبق في جنوب أفريقيا وتركيا، الدكتور ألون ليئيل، قد توجهت برسالة إلى أعضاء البرلمان الأوروبي تطالبهم بمواصلة تأشير مُنتجات المستوطنات الإسرائيلية والمساعدة في رسم الحدود بين إسرائيل والدولة الفلسطينية التي من المفروض أن تقوم الى جانبها. هؤلاء يضعون دمهم على كفهم ويناطحون مجتمعهم وحكومتهم ونُخبهم (لئيل نفسه تعرّض لحملة من طلبة المعهد الذي يدرّس فيه لفصله من عمله). صحيح أنهم يفعلون ذلك لأسباب تتصل بمفهومهم للصهيونية (بخلاف مجموعات أخرى تعلن أنها مناهضة للصهيونية أو غير صهيونية أو تجاوزت صهيونيتها إلى إنسانيتها)، لكن هل على الفلسطينيين أن يُقاطعوهم ويرفضوا الحوار معهم من على المنصات ذاتها؟ هل علينا أن نُدير لهم ظهورنا ولا نحاورهم، كما يطالبنا البعض، بحجة «مقاطعة إسرائيل»؟ سيكون في مثل هذا الموقف الكثير من العقم والجمود العقائدي والتجنّي. لا يُمكن للمقاطعة كاستراتيجية أن تُثمر إلا إذا كانت مدروسة وانتقائية تبثّ أخلاقياتها في كل اتجاه وتُنصف أصحاب الشأن، لا سيما اليهود الذين يناضلون منذ عشرات السنين ضد الاحتلال أو الذين يدعون إلى الانتقال بالمجتمع الإسرائيلي إلى مرحلة ما بعد الكولونيالية على ما يستتبع ذلك من إحقاق العدل التاريخي تجاه الفلسطينيين. كما على قيادة حملة المقاطعة أن تكلّف نفسها جهد توضيح الفارق بين يهودي وصهيوني، بين إسرائيل الرسمية والمجتمع اليهودي، بين إسرائيل الرسمية والجاليات اليهودية، بين إسرائيل الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني في إسرائيل لا سيما التي تُعنى يومياً بحقوق الفلسطينيين وقضيتهم. وأخيراً، لا بدّ من جهد خاص لمنع الانزلاق إلى موقف عنصري ضد اليهود في إسرائيل أو خارجها يحول دون عمل ثنائي القومية في فلسطين التاريخية ضد الاحتلال وجرائمه وسياسات الفصل العنصري. المقاطعة كاستراتيجية تصير أقوى ألف مرة في حال تطورت وانتقلت من الشمولية الجارفة لكل شيء إلى انتقائية تحدد أهدافها وعناوينها بدقة. وهو أمر سيسهّل إقناع العالم بها وبجدواها لأنها ستكون أكثر إنصافاً ووضوحاً وأخلاقية في مواجهة اللاأخلاقية المُطلقة في الاحتلال وجرائمه وفي سياسات الفصل العنصري الإسرائيلية.