مقدّمة : تسعى هذه المحاضرة لاكتشاف السمات الفكرية في شخصية الملك سلمان بن عبدالعزيز وتكوينه ، باعتبارها مؤهّلات نوعيّة مُضافة في القدرات القيادية المُميّزة التي ينفرد بها القليل من الزعامات ، ولعل في اختيار العنوان ما يبرز هذا المقصد ، فالمُدركات ومُفرتدها مُدرَكة تعني الدلالات والمؤشّرات ، وكثيراً ما تستخدم في الجوانب الذهنية والتربوية والمعرفية ونحوها، وهي بالإنجليزية ( the perception ). (1) وفي مدخل الحديث ، لا بدّ من الإشارة إلى تلك القدرات الذهنية التي ورثها عن والديه ، فما من شخصيّة سعودية معاصرة يستعيد مجتمعنا قسماته الفكرية وأسطورة دهائه ومناوراته وشيٓمه ، وما حالف خطواته من حظّ وتوفيق ، مثل شخصيّة الملك المؤسس ( المولود عام 1293هـ/ 1876م ) الذي خرج من الكويت وهو في السادسة والعشرين ليكافح من أجل توحيد هذه البلاد ثلاثة وخمسين عاماً أخرى ، قضى نصفها في كرّ وفرّ ، والنصف الثاني في بناء وتنظيم ، حتى إذا ما لمّ شتات هذا الكيان الكبير أودعه وهو في الثمانين من الأعوام الهجرية ( السابعة والسبعين الميلادية ) من العمر إلى أبنائه وأحفاده من بعده ، وقد اكتسب كثير من أبنائه الستة والثلاثين معرفة عميقة بالأحداث التي مرّت بالدولة منذ قيامها قبل ثلاثة قرون ، وإلماماً شاملاً بالمراحل الثلاث التي اجتازتها ، وأصبحوا أكثر ما يكونون إحاطةً بجغرافيا الجزيرة وبحاضرتها وباديتها وبموروثها الأدبي وبتقاليدها ، وبما يكون عليه الخيّالة حذقاً بمهارة القنص والفروسية وفنون العرضات وإبداعاتها ، وبالقدرات التي تُـكتسب بالإرث والهواية والممارسة ، ولقد تناول كثير من الباحثين المحليين والعرب والغرباء ومنهم فيلبي والريحاني والزركلي ومحمد أسد وديكسون وآرمسترونغ وفان دير مولن وأليكسي ڤاسيلييف بعضاً من ملامح شخصية الملك المؤسس وعلاقة أبنائه به ، وتمكّنهم من الاطلاع على ما يجري من شؤون الدولة ، وعلى ما يرد إلى الديوان الملكي من صحف خارجية ، وقد ظل الأبناء يستعيدون في مجالسهم وذكرياتهم معاملة والدهم لهم ، فخورين بأسلوبه الأبوي التربوي توجيهاً وممارسةً ، ويُقرّرون بالإجماع أن المدرسة الأولى التي تخرّجوا فيها كانت مدرسته حيث لم تشغله أمور الدولة عن الاهتمام بتنشئة أبنائه وبناته والأسرة كافة ، وروى بعض الأبناء شيئاً من ذكرياتهم معه ، مقتصرين على روايتها شفهيّاً دون تسجيلها مصوّرةً أو تدوينها مطبوعةً باستثناء ما رواه الأمير طلال والملك سلمان في ذكرياتهما الموجزة ، والأمل كبير في أن يهتم الملك سلمان في تسجيل ما تختزنه ذاكرة أبناء المؤسس وأحفاده والأسرة كافة من معلومات عن تلك الحقبة التاريخية المهمة التي عاشوها مع الملك المؤسس ، خاصة وأن الملك سلمان يحمل المسؤولية التوثيقية الأولى في البلاد. وهكذا كان الملك عبدالعزيز والبيئة التي نشأ فيها أبناؤه من أقوى المؤثّـرات في تكوينهم ، وفي صقل شخصيّاتهم وطباعهم ، وفي الـمٓعين الذي نهلوا منه ثقافاتهم ومعارفهم ، وقُدِّر لابنه الخامس والعشرين سلمان ( المولود يوم 5 شوال 1354هـ/ 31 ديسمبر1935م ) وكغيره من إخوته ، أن يُقارب في أسلوب حياته وفي عاداته لمدرسة والده ، ويقترب من تاريخه المعيش والمرويّ والمدوّن ، ويكتسب مهارة القيادة وهيبتها وإرث الاستحقاق للحكم من خلال فرص تراكميّة متنوّعة أُتيحت له عبر السنين ، فكان يشترك معه بالاستعداد الفطري والشّبٓه في الملامح والعادات والتقاليد واللهجة والصوت ، وهو أمر طبيعي بحكم الوراثة والبيئة التي نشأ فيها والتربية المتجانسة التي تلقّاها قريباً من والده ، مما نتج عنه تقاربٌ في التكوين وتشابهٌ في نمط المعيشة وأسلوب الحياة ، ولا يمكن لمن يرصد سيرة الملك سلمان وأشقائه وشقيقاته أن ينسى ما كانت والدتهم حصّة بنت أحمد بن محمد السديري ، المعروفة بريادة العمل الخيري والإنساني ، تضفي عليهم من الرعاية والتربية والتنشئة الفاضلة ، مما فصّلت فيه د. دلال بنت مخلد الحربي في كتابها المعروف نساءٌ شهيرات من نجد الصادر عام 1419هـ / 1998م. (2) ومن أسس التكوين المعرفي والفكري عند الملك سلمان ، يأتي آلاستعداد الفطري للمعرفة ، والقدرات الذهنية ، والذكاء ، والتحصيل العلمي الذي تلقّاه وإخوته في مدرسة الأمراء بإدارة الشيخ عبدالله خيّاط ومعه الأساتذة أحمد علي أسد الله الكاظمي ومحمد صالح الخزامي ومحمد علي حمام وغيرهم ، وقد أمضى شبابه على اتصال مع العديد من مشايخ الرياض القريبين من قصر الملك عبدالعزيز ، فكان لذلك التعليم عميق التأثير في تكوينه العام ، حيث كرّس في وجدان الأمير في صغره التعلّق بالمفاهيم الدينية وبتراث الدعوة في البيئة التي نشأ فيها ، وهو ما سار عليه في كبره من حيث الاهتمام بتنشئة أولاده فيما بعد . (3) ثم تأتي تلك الفترة الطويلة التي تولّى فيها إمارة منطقة الرياض ، فهو عندما توفي والده عام 1373هـ / 1953م كان يشارف على العشرين ، وقد سبقه عدد من إخوته الأكبر منه سنّاً إلى تولّي بعض المسؤوليات الإدارية ومنها إمارة الرياض ، فاختاره الأمير نايف في مطلع عهد الملك سعود ( 1373هـ/ 1953م ) لينوب عنه عند غيابه عن إمارة منطقة الرياض ، وفي العام التالي ، تولّى رسميًّا مسؤوليتها من بعده في فترتين بينهما عامان ؛ دامت الأولى خمسة أعوام ، وأتمّ في الثانية عقوداً خمسة ، عاصر خلالها إخوانه الملوك الخمسة الذين سبقوه في الحكم. المعروف أن الحاكم الإداري لمنطقة الرياض ، يمارس عمله اليومي في قصر الحكم وسط العاصمة ( على ساحة الصفاة أوالقصبة كما يُطلق عليها في التراثُ العربي ) وكان الملك المؤسس وأجداده الأقربون يسكنون في تلك المنطقة التاريخية المحاطة بسور ، يديرون منها شؤون البلاد ، وقد خرجت مساكنها عن دائرة السور في أواخر عهده ، أما مزارعها فقد أُنشئت داخل السور وخارجه منذ قديم الزمان ، وكانت الرياض قد اتخذها جده الإمام تركي عاصمةً للدولة السعودية الثانية في أواسط القرن الثالث عشر الهجري ( أواخر القرن الثامن عشر الميلادي ) بدلاً من العاصمة التاريخية الدرعية التي دمّرها الأتراك سنة 1233هـ/ 1818م واستمر القصر حتى الآن يعرف بقصر الحكم ، تُقام فيه المناسبات الوطنية الكبرى من بيعة أو معايدة أو عزاء أو نحوها ، وشهد هذا القصر الاستقبالات والحكايات التاريخية التي ترويها سيرة الملك المؤسس ، وإلى جوار قصر الحكم هذا يوجد الحصن التاريخي ( قصر المصمك الذي كان يستخدم سكناً للحاكم ، يعود بناؤه إلى نهاية القرن الثالث عشر الهجري التاسع عشر الميلادي ) وتكمن شهرته في أن شعلة استعادة الرياض انطلقت منه عام 1319هـ / 1902م ويُوظّف الآن مٓعْـلماً تراثيّاً وسياحيّاً يحكي قصة فتح الرياض وقيام الدولة في حقبتها الثالثة المعاصرة ، كما سُمي المسجد الرئيس الكبير المرتبط بالقصر باسم مؤسس الرياض الإمام تركي ( حفيد الإمام محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية ) وقد جُدّدت هذه المنطقة التاريخية عام 1419هـ / 1999م بمناسبة الذكرى المئويّة الأولى لتأسيس المملكة. عاش سلمان طيلة فترة إمارته للرياض قصة ولهٍ قلّ أن يتكرر مثلها في مدن عالمية شبيهة ، يُكرّس من خلال شخصيّته وأسلوب إدارته ومثابرته على اللقاءات والمواعيد والزيارات والضيافات وعبر معرفة الأُسر والقبائل وفروع البادية وملازمة الزعماء كثيراً من السمات التي كان يتبعها والده وإخوته في ممارسة الحكم ، حتى أصبحت تطبيقاته تُـذكّر بما كان يتمّ في ساحة قصر الحكم من بطولات ، وكأن الزائر لهذه المنطقة التاريخية اليوم يشاهد فيلماً تسجيليّاً يروي قصص عقود مضت ، يوم أن كانت الصفاة تعجّ بركائب الوافدين وبالتبادلات التجارية بين الأهالي ، وقد وثّقت هيئة تطوير الرياض بصماته على العاصمة في كتاب صدر في العام الماضي 1436هـ / 2015 م بعنوان سلمان والرياض : عبق التاريخ . في عام 1432هـ/ 2011 م غادر سلمان منصبه الذي أحبّه ، ليبدأ بعد أخيه سلطان التدرّج صعوداً نحو المناصب الأكثر سياديّة ، فأصبح نائباً لرئيس مجلس الوزراء ووزيراً للدفاع ، وقد ترك كما سلف وراءه روايةً لا تمّحي فصولها مع حبيبته (الرياض) التي جاب عدداً من العواصم ليعرض فيها تجربتها التنموية وليبحث عن مزيد من الأفكار لتطويرها ، مُخلّفاً لتخصص الإدارة المحلية والتطوير الحضري صفحات من الدروس في صناعة التنمية ، واستطاع بمهارة أن يمزج الألوان في لوحة مبتكرة تشدّ الانتباه اسمها الرياض القديمة والجديدة بين عراقة المحافظة وحداثة المعاصرة ، ولتستمر العاصمة وما حولها من محافظات من بعده في استكمال آمال بعيدةِ المدى في التنمية كان يحلم بها في نومه ويرسم معالمها في يقظته ، وهو مسلسل يمكن لحلقاته أن تستولي على هذه المحاضرة وتصرف عن إكمال الحديث ، لكنني أحيلكم إلى كلمة موسّعة ألقيتها بمناسبة فوزه بجائزة منتدى الإدارة المحلية عام 1432هـ/2011 م ونُشرت في حينه. (4) أما المقوّم الرابع من مُدرٓكات المعرفة عنده ، فهو اهتمامه بالشأن السياسي في بُعديه الداخلي ؛ المتمثّل فيمأسسة السلطات الدستورية وصون نظام الحكم والحفاظ عليه ، والبُعد الخارجي ؛ المتمثل في العلاقات الدبلوماسية الدولية ، وفي مشاركته وقربه من صناعة القرار السياسي طيلة العهود المتوالية التي مرّت بالبلاد ، وبخاصة في فترة حكم الملك فهد ، فلقد كان أحد الروافد الاستشارية الثرية التي كانت تغني اتخاذ القرار ، مستفيداً مما كان يمتلكه من الصلات مع النخب السياسية العربية والأجنبية ، ومن المعلومات التي كان يختزنها وكانت تمكّنه من بلورة المواقف وتنفيذها ، وربما كان في هذا الشأن يصطفي بعض الكفايات الوطنية المؤهلة التي تصوغ الأفكار وتطوّرها بعد أن تتلقى منه التوجيهات ، ويمكن القول إن الخبرة السياسية قد تراكمت لديه مع السنوات وساعدت في تكامل معارفه وفكره ، ومهّدت لانتقال الحكم إليه في الوقت المناسب. لقد رُصدت بين شخصيّات الملوك السابقين لهذه البلاد سماتٌ متقاربةٌ مشتركةٌ ، تتمثّل في التناغم المتوازن بين الثابت والمتغيّر في الشأن الاجتماعي ، والفهم التنويري للتديّن ، والتدرّج في الإصلاح والانفتاح ، وترسيخ التقاليد المفيدة ، وهي جميعاً سمات محافظة قامت عليها هذه البلاد منذ توحيدها. وبالإضافة إلى ذلك ، فإن شخصيّة هذه المحاضرة وبقدر ما كرّس عبر العقود في إمارة الرياض تقاليد والده وقيٓم الأسرة المالكة ، ومخزون التراث والأصالة في بيئة الجزيرة العربية ، فإنه أسس لأنماط متجدّدة من القواعد والبروتوكولاتالاجتماعية المستندة إلى خبراته الثقافية المتراكمة في معارفه التي انفرد بها. (5) ثم نأتي إلى المكوّن الخامس في فكره ، وهو ارتباطه بالعديد من المؤسسات العلميّة والثقافيّة ، ومن أهمها علاقته الوثيقة بمكتبة الملك فهد الوطنية ، بدءاً من المبادرة إلى اقتراح تأسيسها بمناسبة تولّي الملك فهد مقاليد الحكم في البلاد ( 1402هـ/ 1982م ) حيث أعلن أهالي الرياض عن قيامها في العام التالي ، كانت المكتبة الوطنية مشروعاً متواضعاً أقامت وزارة المعارف نواته في شارع الملك فيصل بالرياض لإصدار شهادات الإيداع والتسجيل الرقمي للإصدارات السعودية ، ثم انتشله سلمان ومن ورائه أهالي العاصمة لتكون المكتبة الوطنية دُرّة المعرفة والتوثيق في جبين الوطن ، على النحو الذي يعرفه المجتمع العلمي والثقافي ، وقد اكتسى مقرها الأنيق وسط العاصمة هذا العام على طريقي الملك فهد والعُليّا العام وبعد نحو عقدين على إنشائه تصميماً جديداً لافتاً بطاقة استيعابية مضاعفة ، تمّ كلُّ هذا العمل الجليل بأقل قدر من الأضواء ، وبأكبر قدر من التواضع والصمت ، وبأعلى مقدار من الكفاية الإدارية والمكتبية. (6) أما المرتكز السادس في مُدرٓكاته المعرفية عميقة التأثير في تكوين ذهنيّته الفكرية ، فإنها رئاسته تحديداً لمجلس إدارة دارة الملك عبدالعزيز ، وهي المركز التوثيقي والبحثي الأول لحفظ تاريخ الجزيرة العربية والمملكة العربية السعودية وسيرة مؤسسها وحكّامها ، فلقد يسّر له الاقتراب المباشر مع الدارة أن يمارس هوايته في ألاّ يترك كتاباً مهماً تطرّق كليّاً أو جزئيّاً إلى سيرة الملك المؤسس والدولة السعودية إلا وأحاط بقراءته أو طلب من باحث تلخيصه أو علّق على ما فيه ، حتى صار التاريخ يجرى في عروقه ، وأصبح يحفظ تراث البلاد حفظاً علميّاً يتتبُع من خلاله ما كتب عنه ، ويُفنّد أيّ التباسات تحيط بسيرة رجالاتها ، ويُوجّه بإجراء البحوث حول أي غموض يحتاج إلى استقصاء ، وأتاح له ولعه بالقراءة السريعة فرصة الإحاطة بما يرغب الاطلاع عليه سواءً من الكتب أو من المقالات ، حتى لقد رُوي أنه قرأ في أثناء ملازمته لأخيه الأمير سلطان في مرضه ما يربو على ثمانين كتاباً ، وكان الكتاب لا يفارقه في أثناء رحلاته البرية والجوية. بدأت علاقة سلمان بن عبدالعزيز بالدارة منذ قيامها عام 1392هـ/ 1972م وذلك من خلال اهتمامه الشخصي بالتاريخ والتوثيق ، وكانت الدارة بدأت مرتبطة بوزير المعارف ، ثم بوزير التعليم العالي ، ثم صار سلمان بن عبدالعزيز رئيسًا لمجلس إدارتها منذ عام 1417هـ /1997م وقد ازداد تواصله مع الدارة منذ أن بدأت تشارك في التحضير للاحتفال بذكرى المئويّة التي كان يشرف على أدق تفصيلات الاستعداد لها ، حيث صار التواصل اليومي بينه وبين الدارة لا ينقطع ، وقد اضطر بعد تنامي مسؤولياته السيادية عندما أصبح بعد عام 1433هـ/ 2012م وليّاً للعهد لتفويض معظم مهامه ورئاساته في اللجان والمؤسسات الرسمية والأهلية والخيريّة الإضافية ، لكنه استثنى الدارة ومركز العلامة حمد الجاسر الثقافي ، كما سيرد ، وكان مما سُجل له من حيث اقترابه من الدارة أنه حضر في عام 1428هـ/ 2007م جلسة لمجلس الشورى كانت مخصصة لمناقشة تقرير الدارة عن العام السابق. توافرت له مع الدارة سبل القراءة المنظّمة والاطّلاعِ على ما يجّد من إصدارات تقع في دائرة اهتمامه ، والتواصل المستمر مع المؤرّخين والباحثين من أمثال حمد الجاسر وعبدالله بن خميس ود.عبدالله العثيمين ومحمد أحمد العقيلي وعبدالرحمن الرويشد ، والرجوع إليهم ، والإحالة عليهم للاسترشاد برأيهم العلمي مُكوّناً معهم دوائر فكرية وثيقة وراقية. وفي السنوات القليلة الماضية ، صارت الدارة تشرف بتوجيهاته على مركزي بحوث مكة المكرمة والمدينة المنورة ، لتضفي على المركزين إضافة نوعية وعمقاً تنسيقيّاً مكّنهما من الوصول إلى أذرعة البحث الوطنية ومصادر المعلومات المتوافرة في الدارة ، وجعلهما في اتّساق مع ما تقوم بها من جهود ، مع إبقاء سمة الاستقلالية الإدارية لهما. (7) أما الركن السابع في تكوينه الذهني ، فإنه التواصل غير المسبوق بين هذا الحاكم الإداري رجل الدولة في مثل مقامه من ناحية وبين المثقفين من ناحية ثانية ، والمتابعة الدؤوبة لما يكتب في الصحافة المحلية والعربية ، لدرجة قد يستغرب المراقب معها كيف يتّسع وقته لقراءاته الفكرية مع وجود مشاغل الدنيا الرسمية والأُسرية على عاتقه ، فذكر العديد من الكتّاب والإعلاميين السعوديين والعرب على مدى خمسين عاماً وبكثير من الانبهار ، تواصله معهم عند نشر مقالاتهم والتعامل الراقي في نقد ما كتبوه سلباً أو إيجاباً والتعليق عليه ، وتحدث الأدباء والإعلاميون عن ذكرياتهم معه ، وصفوه بأنه الأمير القارئ والمثقّف وصديق الصحافة والإعلاميين والمؤرخ و صديق الكتابويؤكّد المطّلع من واقع تجارب متعددة صدق هذه الألقاب ، حيث إن للعشرات منهم مواقف فيها تعليق على مقال أو نظرة في كتاب أو تصحيح معلومة في علاقة مبنيّة على المثاقفة ، تبدأ باتصال ثم بمعرفة ثم بصداقة ، وقد تتواصل إلى زيارة في مشفى أو مواساة في منزل ، وكنت وكثيرون غيري شهوداً على ما كان يضمره من احترام متساوٍ للمثقفين والأدباء ورجال الصحافة والإعلام ، ومن مشاركة لأقلامهم ومقالاتهم في ردوده وتعليقاته ، وفي الإدلاء بتوثيق المعلومات والأحداث ، يأتي شاهداً على حقيقة حرصه على الدقة والموضوعية أنه لم يسع في يوم من الأيام إلى تزييف المعلومات المتعلقة بسيرته وحياته. يمتلك سلمان بن عبدالعزيز على صعيد العلاقات الداخلية والخارجية بالإضافة إلى ما تقدّم رصيداً من الصداقات الوثيقة مع الزعماء والمفكّرين والأعيان ، مع حضور ذهنيّ متوقّد لاستعادة الذكريات التي يختزنها مع عشرات الشخصيّات ، وهو ما يعرفه العديد من الحضور ، مما لا يحتاج إلى تفصيل. (8) ولا بدّ من أن تُعدّ مكتبته المنزليّة الخاصة في مقدّمة مُدرٓكات المعرفة في تكوينه الفكري ، وكانت مجلة مكتبة الملك فهد الوطنية نشرت في عددها الصادر بمناسبة الذكرى المئوية ( عدد شوال 1419هـ يناير 1999م ) تحقيقاً مصوّراً غطّى تاريخ المكتبة وحجمها ومكوّناتها من الكتب والدوريّات والوثائق والمخطوطات وأوعية المعلومات ، كما تحدث التحقيق عن الطبعات الفريدة من الكتب النادرة التي تضمُّها المكتبة ، وعن أسلوب فهرسة عناوينها بالبطاقات على نظام ديوي العالمي المعروف ثم تخزينها على الحاسوب ، وقد فاقت ثلاثين ألف عنوان متعددة الأجزاء والمجلّدات ، وللمكتبة أمناء يتولّون متابعة حركة النشر الداخلية والخارجية ، وإعداد الملخّصات والتقارير المطلوبة ، وهم يرافقون الملك سلمان في تنقلاته ، يمدّونه وأنجاله بما يطلبونه على مدار اليوم من مواد المكتبة أو من خارجها ، في حين يحرص على الدوام على تزويد الدارة بما يقتنيه أو يُهدى أو يصل إليه من وثائق نادرة وكتب قديمة أوجديدة تقع في دائرة اختصاص الدارة ، في مبادرة منه لدعم أهداف الدارة من ناحية وليكون قدوة للمواطنين لإيداع ما لديهم من وثائق ومخطوطات ومصادر تاريخية ، وقد تطرق التحقيق المنشور في مجلة مكتبة الملك فهد الوطنية إلى برنامج دعم الكتب التي تطبع على نفقته وإلى ذكر نماذج منها ، والمعروف أن الملك سلمان يتمتع بسرعة القراءة والاستيعاب ، ويخصص من وقته اليومي ساعات يومية محدّدة للقراءة ، ولارتياد مكتبته التي تعدّ في نظر المكتبيين من أكبر المكتبات من نوعها لزعيم في العالم ، وتتجه النية في الوقت الحاضر إلى تحويلها لتكون مكتبة عامة وأن توضع محتوياتها في متناول الباحثين والقرّاء ، وكنت أبديتُ في مناسبة سابقة أمنيةً بأن تكون نواةً لمشروع يتبنّاه الملك سلمان لاندماج المكتبات الأهلية الخاصة في كل منطقة من المناطق الثلاث عشرة في مكتبة موحّدة. جدير بالذكر أن الباحث د. فايز بن موسى البدراني وزميلته د. مريم خلف العتيبي قدما بعنوان سلمان الملك المؤرخ محاضرة في نادي المدينة المنورة الأدبي ( شعبان 1436هـ يونية 2015م ) تحدثا فيها عن المناقب المعرفية في شخصه ، وعن شغفه بالقراءة ، كما تحدثا فيها عن مكتبته الخاصة ومحتوياتها ، كما أصدر مركز حمد الجاسر الثقافي عدداً خاصاً من نشرته الدورية جسور ، العدد 18 ، 1436هـ / 2015 م ركَّز المشاركون فيه على الركائز الثقافية في شخصيّته كما عايشوها وعرفوها عن قرب، (9) وتتمثّل الركيزة التاسعة في تكوينه الذهني ، في رئاسته الفخرية للعديد من المراكز العلمية والثقافية والكراسي البحثية والجمعيات العلمية والمؤسسات التعليمية والجوائز التي ارتبطت باسمه ، وهي كما يبدو من أسمائها في المجمل تعكس شخصيّته واهتماماته الثقافية ، يأتي من بينها مركز العلاّمة الشيخ حمد الجاسر الثقافي الذي لم ينقطع الملك سلمان منذ تأسيس المركز عن أن يوليه رعايته والاهتمام بحضور مناسباته وبرئاسة اجتماعات مجلس أمنائه ، متذكّراً على الدوام خلال الاجتماعات ما كان يشعر به من تقدير لعلمه وآرائه ، ومن اتصالات متكررة معه على بساط البحث والتنقيب التاريخي والجغرافي والأدبي ، وبلغ من احترامه للشيخ الجاسر أن احتفظ الملك لنفسه حتى تاريخه بالرئاسة الفخرية لمركزه الثقافي بالرغم من مشاغله ، كما سلف. وتضم قائمة المراكز والجمعيّات وكراسي البحوث كلاً من : مركزي أبحاث مكة المكرمة والمدينة المنورة ، والجمعية السعودية التاريخية ، وجائزته للدراسات التاريخية والحضارية للجزيرة العربية ، ومؤسسة الرياض الخيرية للعلوم ، وواحة سلمان بن عبدالعزيز للعلوم ، وجائزة أبحاث الإعاقة ، وكرسي الدراسات التاريخية والحضارية للجزيرة العربية ، وكرسي دراسات تاريخ مكة المكرمة ، وكرسي تاريخ المدينة المنورة ، وقد تناول د. عبدالله العسكر في محاضرة ألقاها في نادي الأحساء الأدبي ( جمادى الأولى 1436هـ مارس 2015م ) تفصيل ارتباط تلك المراكز الثقافية والجمعيات العلمية بشخص سلمان بن عبدالعزيز عندما كان أميراً لمنطقة الرياض وتفاعله معها بأكثر مما تكون العلاقة شرفية. (10) ويتصل العنصر الأخير في سلسلة هذه المُدركات المعرفية ، بالمشاركات والحوارات التي يحرص عليها في أثناء لقاءاته بالعلماء والمثقفين وأساتذة الجامعات وطلّابها ، وكان من أبرز أمثلتها محاضرته في جامعة أم القرى ( 1429 هـ / 2008 م ) ومحاضرته في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ( 1432هـ /2011م ) ومحاضرته في العام التالي في جامعة الملك سعود ، وما سبق هذه المحاضرات أو تلاها من حوارات مما يعقده بشكل شبه أسبوعي يعبّر فيه عن مواقف فكرية ثابتة في ذهنه ، كتلك التي يستعيدها بين الحين والآخر عن مصطلح الوهابية ، وعن العوامل التي أسهمت في سقوط الدولة السعودية الأولى والثانية ، وعن حثه على النقد البنّاء، وتشجيعه للكاتب أن يتبنّى قضايا مدينته كما يتبنّى قضايا وطنه الكبير ، وأن المطلوب ممن يكتب أن يتقصّى الحقائق ، وأن تاريخ المؤسس هو تاريخ للوطن كله ،، وهكذا. ****************** وإن هذه القراءة لا تكتمل دون التأمّل في الأبعاد الإنسانية في شخصيّته ، وهي سمات يتناول الكتّاب تحليلها بين الحين والآخر ، كاستعراض الشيخ زين العابدين الركابي طرفاً منها في كتابه سلمان بن عبدالعزيز : الجانب الآخر 1430 هـ / 2008م واجتهاد د. عبداللطيف الحميد في توثيق سيرته في كتاب صدر عام 1430هـ / 2009 م بعنوان سلمان بن عبدالعزيز : سيرة توثيقية وأكتفي هنا باستدعاء ثلاث علامات منها ؛ الكاريزما الرزينة ، والدعابات المرحة ، ولمحات الوفاء ، تلك الثلاثية التي يعتمرها في قلوب المواطنين والضيوف منذ أن تبوّأ الوظيفة العامة في منتصف القرن الماضي ، مما يُغبط عليها من المناقب الواضحة فيه ، وحين يستذكر في لقاءاته شراكة الآباء والأجداد في الأسرة والقبيلة والبادية من أدنى البلاد إلى أقصاها في بناء الدولة ، جنباً إلى جنب مع من استخلصهم والده من المستشارين العرب ، في جهودهم المقدّرة للإسهام في صنع الوحدة وتأسيس الكيان. ثم ماذا ، في ضوء هذه الإضاءات العشر ، أن يقال عن عامه الأول في الحكم متّكئاً على استحقاقات رجل الدولة ، وعلى قدراته المعرفية الخاصة التي اكتسبها خلال خمسين عاماً ونيّف أميراً لمنطقة العاصمة ، ثم وزيراً للدفاع فوليّاً للعهد ونائباً لرئيس مجلس الوزراء ، وقد صارت الثقافة والاطلاع جزءاً من مؤهلاته ومكوّنات سيرته ، واتّشح اسمه بالتلازم الوثيق مع مجتمع الفكر والمعرفة ومحيط الإدارة ، والمشاركة الدائمة في المناسبات والندوات والمؤتمرات العلمية ، والتواصل المباشر مع العلماء والأدباء والمثقفين ، إِلَّا أن تكتسي شخصيّته بملامح غير معتادة من التميّز والتفرّد بين القيادات السياسية السائدة. تأتي تلك المرتكزات المعرفية العشر في مسيرته ، والحس الثقافي في تكوينه الفكري ، ضمن صحائف كثيرة يمكن أن تُسجّل في سيرة لم تُكتب بعد ، وهي المؤثرات التي صاغت خلفيّة فكره ، وأسهمت في تكوين مفاتيح شخصيّته ، وتمثّلت كما رأينا ، في استعداده الفطري والذهني ، وفي المنهج الفكري والسياسي لوالده ولأخوته الذين لازمهم في فترة حكمهم ، واطّلع عن قرب على قراراتهم ، وارتوى من أساليبهم في معالجة الأمور الداخلية والخارجية. إن من يطّلع عن كثب على سيرته أميراً ، لن يُفاجٓأ بما شهده المجتمع في اثني عشر شهراً أمضاها في سُدّة الحكم ، من قرارات تُعزّز الحزم والشفافية والنزاهة والإصلاح ، وتجسّد خصائصه وخبراته التراكمية من وعيٍ بمحيطه ، وفهمٍ لمجتمعه ، واستيعابٍ لواقعه العربي ، فلقد تفتّقت قريحته ملكاً ، عن إصرار على تجديد كيان الدولة بدماء شابّة ، وعلى تحديث بيئة القضاء والتعليم والأمن ومفاصل الإدارة والخدمات بروح وثّابة وبطاقات غير متثائبة ، وعلى الإقدام في اتخاذ قرارات جريئة تحافظ على هيبة الدولة وأمن الوطن ، وعلى توجّه نحو تغيير المعادلة التقليدية وموازين القوة في المنطقة ، وهو ما يبشّر بالتفاؤل بإذن الله ، بأن المجتمع الجديد قد صار بالفعل أمام عهد مضيء للتحوّل الوطني ، نحو تنمية طموحة مبنيّة على قواعد اقتصادية متينة متنوّعة ، وعلى بنيان متكامل وثيق يرتقي في جانبه المعرفي بالمكانة العلمية والفكرية للمؤسسات التعليمية وتنشيط برامجها الحوارية والثقافية والمنبرية ، والعمل على تحقيق مشروع معرفي راقٍ يرتكز على مبادئ الماضي وتباشير المستقبل. وكما كانت سيرته أميراً سلسلة قطاف من الكفايات الفكرية المتنوّعة ، فإن الحديث عن قدراته ملكاً هو مشروع كتاب مفتوح ، جدير بحديث مستقل. محاضرة في جامعة بيشة ، الثلاثاء 16 / 4 / 1437 هـ ( 26 / 1 / 2016 م ).