عندما نزل سمير جعجع إلى الرابية في 2 يونيو (حزيران) من العام الماضي ليزور ميشال عون للمرة الأولى، تعمّد وضع يده على كتفه فالتُقِطت الصورة التي بدت وكأنه هو الذي يسند الجنرال، وعندما صعد عون إلى معراب يوم الاثنين الماضي، ليجلس مستمعًا إلى جعجع وهو يعلن تأييد ترشيحه لرئاسة الجمهورية، بدا وكأن جعجع يعلن انقلابًا توّجه «مرجعية فخامة والأمر لي». وزير الخارجية القطري خالد العطية علق على إعلان جعجع بالقول: «إنه قرار حكيم يأخذ مصلحة لبنان في الاعتبار»، والذين يطلقون على جعجع لقب «الحكيم» أعجبهم الكلام لأنه أول تعليق خارجي على الانقلاب المدوي الذي خلط الأوراق السياسية اللبنانية وزلزل تحالفات وقلب حسابات سواء في تيار 14 آذار الذي كان زعيمه سعد الحريري قد أوحى بدعم سليمان فرنجية مرشحًا للرئاسة، أو في تيار 8 آذار الذي يقوده «حزب الله» متمترسًا دائمًا وراء دعم عون للرئاسة، لكن على خلفية حسابات تقضي باستحالة وصوله، ما يوسّع الفراغ الذي يتيح للدويلة أن تمضي في قضم الدولة اللبنانية المعطّلة! بعد ساعات على إعلان معراب، بدا المشهد السياسي سرياليًا، فلا الجلسة رقم 35 التي ستعقد في 8 فبراير (شباط) المقبل ستنتهي بانتخاب رئيس جديد، ولا من الواضح أن الفراغ الرئاسي سينتهي، والدليل أن فرنجية أعلن من بكركي أنه مستمر في ترشّحه «ومن يُرِد الاتصال بي يعرف عنواني»، في رد مباشر على عون الذي رفض تأييده قبل ثلاثة أسابيع، في حين أعلن «تيار المستقبل» أنه مستمر في ترشيح فرنجية وأن من يقرر الرئاسة هو مجلس النواب، في إشارة واضحة إلى رفض ترشيح جعجع لعون! «حزب الله» بدا غارقًا في حيص بيص بين حليفين، هل يمضي في تأييد عون الذي طالما أعلن أنه مرشّحه للرئاسة ولكن ليس على «كتاب» جعجع وسياسته، أم يذهب إلى تأييد فرنجية الذي رشحه الحريري فيخسر عون؟ الصورة ازدادت تعقيدًا، ومن المرجّح أن يراهن الحزب على ترسيخ التوازنات التي حالت حتى الآن دون اكتمال النصاب، بما يبقي الفراغ الذي يطلق يده في لبنان وسوريا! ولكي تكتمل الصورة التي توحي باستمرار الفراغ وعدم قدرة عون أو فرنجية على الوصول إلى الرئاسة وسط التوازنات السياسية المعقدة والمتشابكة، لم يتردد النائب هنري حلو من الإعلان الأربعاء أنه مستمر في ترشّحه للرئاسة، بما يعني أن النائب وليد جنبلاط الذي كان متحمسًا لوصول فرنجية أوعز إليه بإعلان هذا كرفض واضح لتأييد عون، وخصوصًا بعدما بدا جعجع وكأنه «صانع الرؤساء». إذا أضفنا إلى هذا أن الرئيس نبيه بري مستمر في تأييد فرنجية وأنه لن يقبل بعون رئيسًا ولو قبل به «حزب الله»، الذي لن يقبل به أيضًا مرشحًا ينزل من معراب حاملاً ورقة «نوايا» تتعارض مع جوهر ورقة التفاهم التي سبق لعون أن وقعها معه عام 2006، ثم إن تذكرنا أن النواب المستقلين لن ينزلوا إلى المجلس لتأمين النصاب، يصبح واضحًا تمامًا أن فخامة الفراغ سيستمر في لبنان وأن فرص عون في الوصول إلى بعبدا رغم تأييد جعجع تتساوى تقريبًا مع فرص فرنجية، ما لم يحصل أمر من اثنين: - إما حدوث انقلاب سياسي جديد يغيّر من المعادلات، وهو أمر صعب بعدما وازن انقلاب جعجع ترشيح عون انقلاب الحريري ترشيح فرنجية. - وإما أن تحصل معجزة وعي تدفع المسيحيين وخصوصًا الموارنة إلى كسر الحلقة المفرغة التي سُمّيت «الأقوياء الأربعة» (عون وجعجع وفرنجية وأمين الجميل)، والتي أدت إلى إضعاف لبنان بسبب الفراغ المتمادي، عبر الاتفاق على رئيس من خارج ثنائية 8 و14 آذار التي تقسم البلد بالسكين. طبعًا أجد من الضروري أن أعتذر إلى القارئ العربي عن إغراقه في كل هذه التعقيدات والانقلابات والعقد اللبنانية، ولكن من المهم توضيح البعد السياسي لتأييد جعجع عون، فما حصل في معراب يشكّل انعطافًا مهمًا له انعكاسات عميقة على الوضع المسيحي اللبناني وإن لم يؤدِّ إلى تحسين فرص عون في الرئاسة. كانت السابعة مساء، وكان الجو ماطرًا وعاصفًا في تلة معراب، وكان لبنان على شاشات التلفزة التي ستنقل الحدث المفاجأة أو «الأعجوبة» التي ستنهي لعنة 35 عامًا من العداء والدماء والصراع بين «العونيين» و«القواتيين»، التي عجزت بكركي وكل المساعي عن إنهائها، فاستمرت رغم أن الاحتلال السوري للبنان أبعد عون إلى فرنسا عقدًا ونيفًا، ثم أعاده حليفًا تقريبًا «يغفر ولا ينسى» (!) وأدخل جعجع إلى سجن وزارة الدفاع عقدًا ونيفًا، ثم خرج ولن ينسى وبقي «حيث لا يجرؤ الآخرون»! وقبل أن يصل عون إلى معراب تعّمد زيارة البطريرك الماروني بشارة الراعي الذي ذاق المرارات وهو يسعى ويجتهد لإرساء الصلح والتفاهم بين الطرفين، والذي استمات لإقناع «الأقوياء الأربعة» بأن لا يستمروا في إضعاف لبنان وإبقائه بلا رأس وفي الفراغ، ولهذا عندما ترجل من السيارة ودلف مع جعجع إلى القاعة كانت رائحة مباركة بكركي تفوح في المكان، ما سيزيد التعقيدات التي ستواجه عون رئيسًا في أمكنة أخرى لها حسابات أخرى! واضح أن الفراغ الرئاسي سيستمر، لكن ما حصل كان «قرارًا حكيمًا»، لكن لمصلحة سمير جعجع الذي يلقبونه «الحكيم»، وخصوصًا أنه وضع قواعد انقلابه على حسابات دقيقة: الأمر لي، أنا من يسعى ويضحي لصنع الرئيس، وسواء وصل عون إلى بعبدا أو لم يصل فإن الجائزة السياسية الكبرى ستصل إلى معراب. سيبدو جعجع دائمًا أنه من تنازل فارتفع، لأنه أرسى المصالحة مع عون وطوى صفحة سوداء من تاريخ المارونية السياسية المعاصرة، وأنه حاول فتح كوة لإنهاء الفراغ في الرئاسة المسيحية، فإذا وصل عون يكون هو صانع الرئيس، وإذا لم يصل يكون دقّ إسفينًا داخل تيار 8 آذار. وهكذا قرأ جعجع «ورقة النوايا العشر» أو لنقُل «الوصايا»، ليغرق عون في التصفيق: التزام الطائف، احترام القوانين، عدم الاحتكام إلى السلاح والعنف، دعم الجيش والقوى الأمنية، وحدانية سلطة الدولة على كل الأراضي اللبنانية، ضبط الحدود، تنفيذ قرارات الحوار الوطني، قانون انتخابي يضمن المناصفة وصحة التمثيل... وبدا واضحًا أن ورقة التفاهم التي وقعها عون مع «حزب الله» في 6 فبراير من عام 2006 تتمزق تمامًا بما سيبقي الجنرال في الرابية... مفهوم؟