أثَّر غياب المقاصد الشرعية سلباً على مسيرة الفقه الإسلامي: أصولا وأحكاما، بعد أن حُصِر في معادلة (اللفظ /المعنى)؛ بحيث أصبح اللفظ هو الأصل، أما المعنى فهو تابع للفظ فحسب، على الرغم من أن اللفظ ليس أكثر من مواضعة بشرية في زمان ومكان على معنى معين، أما (الواقع)، بصفته الأصل الذي وُضِعَ من أجله اللفظ، فهو الذي يجب أن يُراعى عند استنباط المعاني من الألفاظ قصد إصدار الأحكام في النوازل. غياب مقاصد الشرع عن علم أصول الفقه منذ زمن الشافعي، واعتماده على مجرد استثمار الألفاظ لتوليد المعاني، بالتزامن مع إغلاق باب الاجتهاد، أدى بابن رشد إلى أن ينعى على فقهاء زمانه بأنهم يشبهون العوام جاء ابن حزم الأندلسي كمجدد في القرن الثالث الهجري فدعا، من ضمن معالجته لضعف بنية أصول الفقه التي دشنها الشافعي، إلى اعتماد القياس الأرسطي في الفقه بدلا من القياس التقليدي الظني (قياس فرع على أصل)، سعيا منه إلى إقامة أصول الفقه على قورية التي دشنها ابن حزم في مجال أصول الفقه، فطبقها في مجال العقيدة بدلا من منهج المتكلمين (قياس الغائب على الشاهد)، ثم طورها الشاطبي في القرن الثامن الهجري وفق رؤية ومنهج جديدين، قوامهما صياغة بناء الفقه على المقاصد الشرعية انطلاقا من ثلاث مسائل منهجية جديدة هي: الأولى: الدعوة إلى اعتماد القياس الأرسطي بدلا من القياس الفقهي التقليدي (قياس فرع على أصل، أو قياس حكم النازلة الجديدة على حكم مسألة معروفة، بحجة تشابه علتيهما). وقوام القياس الذي دعا إليه الشاطبي، كما يقول الجابري: "أن كل دليل شرعي فمبني على مقدمتين: إحداهما نظرية تثبت بضرورة الحس أو بضرورة العقل، أو بالنظر والاستدلال، أما الثانية فنقلية تثبت بالنقل عن الشارع نقلا صحيحا. الأولى ترجع إلى تحقيق مناط (علة) الحكم في كل جزئي فهو مقدمة صغرى، والثانية ترجع إلى نفس الحكم الشرعي، وهو يعم سائر الجزئيات التي من نفس النوع، فهي مقدمة كبرى". وينبه الشاطبي إلى أن كون الدليل الشرعي يُبنى على مقدمتين لا يلزم عنه بالضرورة أن الأدلة الشرعية يجب أن يطبق عليها ما يقرره أهل المنطق في شأن القضايا، من اعتبار التناقض والعكس، وما يقررونه في شأن أشكال القياس الجامع، (كما فعل الغزالي والذي ساروا على دربه)، وإنما المراد، كما يقول الشاطبي، "هو تقريب الطريق الموصل إلى المطلوب على أقرب ما يكون، وعلى وفق ما جاء في الشريعة، وأن يُتحرى فيه إجراؤه على عادة العرب في مخاطباتها ومعهود كلامها. وهذا يعنى أن الصياغة المنطقية في أصول الفقه يجب ألا تحصر نفسها في استثمار الألفاظ، بل يجب أن تنفتح على معهود العرب في خطابهم ككل". الثانية: لا بد للفقيه قبل إصدار الحكم، من استقراء كافة معاني اللفظ الواحد، بدلا من حصر النظر في لفظ واحد لاستنباط المعنى منه، خاصة عندما يتعلق الأمر بلفظ يبدو للوهلة الأولى أن معناه يخالف العقل أو الحس، بل عليه أن يستقرئ كافة وجوه استعمال ذلك اللفظ في الشرع، ليصل إلى المعنى الذي يقصده الشارع، ليستخرج ما سماها الشاطبي (كليات الشريعة)، التي هي (كليات استقرائية). الثالثة: الدعوة إلى بناء أصول الفقه على مقاصد الشرع بدلا من بنائها على معادلة اللفظ والمعنى. وهي دعوة جديدة كل الجدة على علم أصول الفقه الذي قام منذ زمن الشافعي على استخراج المعاني من الألفاظ فقط. هذا الفكر المتقدم الذي يروم تأصيل أصول الفقه ليكون علما برهانيا قطعيا، بدلا من أن يكون ظنيا يعتمد على مجرد ظن الفقيه أن ثمة تشابها بين علة النازلة الجديدة، وعلة حكم سابق، شكل انقلابا فكريا كان سيؤدي، لو قُدِّرت له السيادة، إلى أن يكون الواقع هو الأصل المؤثر في إصدار الأحكام الشرعية،(نحن نتكلم هنا عن نصوص المعاملات فقط)، ببنائها على المقصد الشرعي للحكم، لكنه توارى خلف سحب النكوص الحضاري الذي بدأ مع بداية عصور الانحطاط العربية الإسلامية. غياب مقاصد الشرع عن علم أصول الفقه منذ زمن الشافعي، واعتماده على مجرد استثمار الألفاظ لتوليد المعاني، بالتزامن مع إغلاق باب الاجتهاد، أدى بابن رشد إلى أن ينعى على فقهاء زمانه بأنهم يشبهون العوام، وأنه لا فرق بينهم وبين العوام إلا أنهم حفظة فقه فقط، فيقول: "هاهنا طائفة تشبه العوام من جهة، والمجتهدين من جهة، وهم المسمون في زماننا هذا بالفقهاء، وإذا كان هناك فرق بينهم وبين العوام، فهو أنهم يحفظون الآراء التي للمجتهدين فيخبرون بها العوام!". ولا يفتأ فيلسوف قرطبة يركز على التلازم المنطقي والشرعي بين النص الشرعي والمصلحة المقصودة منه. فعندما استعرض أقوال أئمة المذاهب في (علة) تحريم بيع الأصناف الربوية الستة، وهي (بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح)، توقف، كما يقول الدكتور إدريس حمادي في كتابه (إصلاح الفكر الديني من منظور ابن رشد)، عند تعليل الحنفية في المكيل والموزون، بالنظر إلى أنه صلى الله عليه وسلم لما علق التحليل باتفاق الصنف والقدر، وعلق التحريم باتفاق الصنف واختلاف القدر، رأوا، أي الحنفية، أن الكيل أو الوزن هو المؤثر في الحكم كتأثير الصنف، فقال: "إذا تُؤُمِّل الأمر من طريق المعنى ظهر والله أعلم أن علتهم أولى العلل، وذلك أنه يظهر من الشرع أن المقصود بتحريم الربا إنما لمكان الغبن الكثير الذي فيه، وأن العدل في المعاملات إنما هو مقاربة التساوي. ولذلك لما عَسُر إدراك التساوي في الأشياء المختلفة الذوات جُعل الدينار والدرهم لتقويمها. وأما الأشياء المكيلة والموزونة فلما كانت ليست تختلف وكانت منافعها متقاربة، ولم تكن هناك حاجة ضرورية لمن عنده أن يستبدل له بذلك الصنف بعينه إلا على جهة السرف، (أي الإسراف)، كان العدل في هذا إنما هو بوجود التساوي في الكيل والوزن إذا كانت لا تتفاوت في المنافع. وأيضاً فإن منع التفاضل في هذه الأشياء يوجب ألا يقع فيها تعامل، لكون منافعها غير مختلفة. والتعامل إنما يُضطر إليه في المنافع المختلفة. فإذن منَع التفاضلَ في هذه الأشياء، أعني المكيلة والموزونة، علتان: إحداهما وجود العدل فيها، والثانية منع المعاملة إذ كانت المعاملة بها من باب الإسراف". ولعل المناسبة تقتضي أن نقول إن عدم ربط النصوص بمقاصدها المصلحية، أدى إلى وضع فقهي يعتمد في تفعيله للنصوص المعاملاتية، إما على تثبيت الوسائل القديمة التي ابتكرها الأقدمون بغية الوصول إلى المصالح المأمولة منها، رغم ابتكار وسائل حديثة تؤدي إلى مقصد النص بشكل أفضل وأوكد، وإما على القفز على مقصد النص، بالاكتفاء بتطبيق ظاهر اللفظ فقط. فعندما ينص الشارع على أن البيعين بالخيار ما لم يتفرقا، فإن الهدف منه احترام عقود وتصرفات البيع وعدم تركها بلا ضابط، وليس التفرق المحسوس. لكن عندما يأتي من يأخذ بجانب التفرق المحسوس، فيغيب عن صاحبه لحظات لكي يقطع الطريق عليه بالتراجع عما ابتاعه أو اشتراه منه، فهو تفعيل منه لظاهر النص وترك لمقصوده. وعندما يذهب من يريد اقتراض شيء من النقد إلى من يبيعه سلعة معينة، أياً تكن تلك السلعة، ثم يقوم بتحريك السلعة من مكانها إلى مكان آخر، كأن يحرك السيارة من مكانها إلى مكان مجاور، ثم يقوم ببيعها في الحال على من اشتراها منه بمبلغ أقل مما اشتراها به لحاجته للنقد، فذلك احتيال على مقصود الشرع الذي أراد تدوير السلع بين الناس وتحريك أدوات الاقتصاد، لا أنه قصد التحريك المحسوس لذاته. ولله الأمر من قبل ومن بعد. yousef1@mof.gov.sa لمراسلة الكاتب: yabalkheil@alriyadh.net