المصالحة الأميركية - الإيرانية بعد 34 سنة من القطيعة بين البلدين هي أحدث انقلاب في الشرق الأوسط يفرض توازنات جديدة وخريطة سياسية مختلفة، لا دور للعرب فيها ونرجو ألا يدفعوا ثمناً لها. فحتى الأمس القريب لم يكن أحد يعرف أن التواصل بين الخصمين مستمر منذ حوالى ثمانية أشهر، وأنه أحيط بستار كثيف من السرية، وخضع للتمويه وعمليات الخداع، التي جعلت الاجتماعات تعقد في سلطنة عمان، وفى بعضها كانت الوفود تدخل من الأبواب الخلفية للفنادق، وتستخدم المصاعد المخصصة لخدمات الغرف، كي لا تلفت الأنظار. وروت وكالة «أسوشيتدبرس» قصة الاتصالات بين الولايات المتحدة وإيران التي قالت انها بدأت في آذار (مارس) من العام الحالي، أثناء وجود الرئيس أحمدي نجاد في السلطة وقبل انتخاب الرئيس حسن روحاني في آب (أغسطس). أخفت الإدارة الأميركية نبأ الاتصالات عن حلفائها، رغم تعهدها في السابق بإطلاعهم على أي محادثات تجريها مع إيران . وكان أول الحلفاء الذين احيطوا علماً بالأمر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الذي ثار غضبه وهاجم إيران بشدة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ووصف الرئيس روحانى بأنه «ذئب في ثياب حمل». أصداء الاتفاق في إسرائيل كانت الأشد حدة والأكثر صخباً. فقد وصفه نتانياهو بأنه «خطأ تاريخي أصبح العالم في ظله أشد خطراً». وحذّر من أن يؤدي رفع العقوبات الجزئي عن إيران إلى تشجيعها على استئناف عمليات تخصيب اليورانيوم في الوقت الذي تراه مناسباً. في الوقت ذاته كشف وزير الشؤون الاستخبارية يوفال شطينتس النقاب عن أن إسرائيل نجحت في تعديل مسودة الاتفاق بين الدول الكبرى وإيران قبل ساعات من إنجازه. وقال وزير الخارجية الإسرائيلى أفيغدور ليبرمان أنه يتوجب على إسرائيل أن تبحث عن حلفاء جدد بناء على مصالح مشتركة، تقوم على «مبدأ خذ وهات». أما الخبراء الإيرانيون فيشيرون إلى الوقائع الآتية: • إن الاتفاق اعترف بإيران كقوة إقليمية نووية لها الحق في تخصيب اليورانيوم للأغراض السلمية في حدود متفق عليها. • إن الاتفاق تم بأسرع مما توقعوا، لإدراكهم أن الضغوط الإسرائيلية والفرنسية لعرقلته كانت شديدة، وأن تلك الضغوط مارستها بعض الدول الخليجية من خلال بعض جماعات الضغط التي تمولها في واشنطن. • إن الولايات المتحدة وازنت بين التهديدات الإسرائيلية التي لوحت فيها بأنها ستقوم من جانبها بعمل عسكري ضد إيران بدعوى حماية أمنها القومى، وبين ما يمكن أن تجنيه من فوائد جراء اتفاقها مع إيران، وأدركت خلال جولات المفاوضات الخمس أن كفة الفوائد الأخيرة أرجح، الأمر الذي جرى حسمه حين التقى في جنيف وزيرا خارجية كل من الولايات المتحدة وإيران. وكان لكاترين آشتون مفوضة الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية دورها الإيجابي في إنجاح ذلك اللقاء. • إن التفاهمات الإيرانية - الأميركية تجاوزت حدود البرنامج النووي وتخفيف العقوبات الاقتصادية، لكن العنصر الحاسم فيها كان الاتفاق على اشتراك إيران في مكافحة الإرهاب في سورية والعراق ولبنان وأفغانستان. • إن الاتفاق على تخفيف الحظر يمكّن إيران من استرداد أكثر من سبعة بلايين دولار من الولايات المتحدة مجمدة لدى البنوك العالمية، لكن التخفيف بدأ بالإفراج عن الأموال المجمدة في البنوك الآسيوية من دون الغربية (في كوريا الجنوبية وماليزيا وإندونيسيا). وقيمتها تتجاوز 2.5 بليون دولار، وقد سارعت إيران إلى استخدام تلك الأموال في استيراد بعض احتياجاتها فور توقيع الاتفاق. • إن بعض الشركات الغربية الكبرى التي ساهمت في المقاطعة طوال العقود الثلاثة الماضية بدأت اتصالاتها للعودة إلى العمل مرة أخرى في إيران، وكانت شركة شل العاملة في مجال استثمارات حقول النفط واحدة من أهم تلك الشركات. منذ قامت الثورة الإسلامية في عام 1979 واعتمدت طهران شعار «الموت لأميركا» جرت هندسة منطقة الشرق الأوسط بحيث وقفت غالبية دوله في صف مخاصمة إيران. وكثفت الولايات المتحدة من وجودها العسكري في منطقة الخليج، وانفتح ملف الجزر الثلاث التي اتهمت دولة الإمارات إيران بالاستيلاء عليها. وفى الوقت ذاته ارتفعت بعض الأصوات محذرة من الأطماع الفارسية تارة ومن المد أو الهلال الشيعي تارة أخرى. وظلت إيران شوكة في حلق المنظومة الغربية وإسرائيل بوجه خاص. وكان عداء الأخيرة أكبر، حيث اعتبرت الثورة الإسلامية تهديداً وجودياً لها. سواء جراء تمردها على الإرادة الغربية أو دعمها للمقاومة الفلسطينية. وكان البرنامج النووي الإيراني أخطر تلك العوامل. وخلال تلك السنوات التي ناهزت الثلاثين تمت شيطنة إيران في الخطاب السياسي والإعلامي العربي. وكانت الحرب العراقية - الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات إحدى ذرائع درء ذلك الخطر. بالتوازي مع ذلك فإن واشنطن اعتبرت إيران من الدول الراعية للإرهاب، وقد ذكر موقع الخارجية الأميركية أنه في يوم توقيع الاتفاق كانت إيران قد أمضت عشرة آلاف و902 يوم وهي مدرجة ضمن تلك القائمة السوداء. هذا المعمار كله بصدد التغير، خصوصاً إذا ما تم توقيع الاتفاق النهائي بعد سنة. وهو ما تحاول عرقلته الأطراف الأميركية المتعاطفة مع إسرائيل (الجمهوريون وبعض مراكز الأبحاث). رغم أن ثمة مصالح اقتصادية كبيرة في الولايات المتحدة حبذت الاتفاق، واعتبرته باباً يمكّنها من الدخول إلى إيران واغتنام فرصة الاستثمار فيها بعد طول غياب. إن معالم الصورة، في أعقاب توقيع الاتفاق، ترتسم في النقاط الآتية: - بدا من ملابسات الاتفاق أن محوراً جديداً تحت التشكل في المنطقة قوامه التحالف الإيراني- الروسي الذي برز دوره في الصفقة الأخيرة، وكانت له بوادره في وقف الحملة العسكرية ضد سورية. - أصبحت الولايات المتحدة تعتمد في ضمان استقرار المنطقة على إيران وتركيا، وبعدما خرجت مصر من دائرة التأثير في العالم العزبي منذ عصر مبارك وأدى عدم الاستقرار الذي تشهده حالياً إلى سحب رصيد أهميتها في المنطقة. فإيران موجودة على الأرض في سورية والعراق ولبنان وبدرجة أو أخرى في شمال اليمن حيث الحديث متواتر عن دعمها للحوثيين. وتركيا لها دورها في سوريا والعراق وفي منطقة القوقاز، فضلاً عن حضورها الاقتصادي المهم في العديد من الأقطار العربية. - إسرائيل ستكون مستفيدة أيضاً، لأن الكيماوي السوري والنووي الإيراني ظلا مصدرين لقلقها طوال السنوات الماضية. وقد تم تفكيك وإغلاق الملف السوري بالاتفاق الأخير بين موسكو وواشنطن. وها هو اتفاق جنيف يطمئنها نسبياً لأنه يضع قيوداً على النووي الإيراني، رغم أنها كانت ولا تزال تطمح إلى إيقافه وتفكيكه تماماً كما حدث مع الكيماوي. - أسهم إيران في المنطقة العربية سترتفع، وسينعكس ذلك على سورية والعراق ولبنان. - لا تزال هناك أسئلة مثارة حول مصير الحرب الطائفية بين السنة والشيعة في العالم العربي، وموقف إيران من دعم المقاومة الإسلامية في فلسطين ولبنان، ومستقبل العلاقات بين القاهرة وطهران.