أطلق الدكتور رفعت السعيد على كتابه الذي تناول النهضة العربية في القرن التاسع عشر، وما سمي مرحلة التنوير عنواناً مثيراً للتأمل هو التنوير من ثقب إبرة، وذلك إشارة إلى العوائق والمصدات التي وضعت في عجلات العربة كي تراوح مكانها. فهل كان التنوير بالفعل في تلك المرحلة شاقاً وعسيراً إلى هذا الحد، وما الذي يمكن أن يقوله د. السعيد أو سواه من المعاصرين عن التنوير الآن؟ في بواكير النهضة كان الوطن العربي يتطلع نحو الاستقلال، لأنه كان يرزح تحت وصايات وانتدابات واحتلال مباشر، لكن ما يحدث الآن هو أن الاستقلال ذاته أصبح مهدداً، لأن هناك من يريدون لعقارب الساعة القومية أن تعود إلى الوراء بحيث تتبدل الأسماء فقط، حيث لا فرق بين كرومر وبريمر ما دام الأمر متعلقاً بإعادة الهيمنة وامتصاص نخاع الشعوب. ونحن لسنا متشائمين إلى الحد الذي نقول فيه إن ثقب الإبرة قد وجد من يسده تماماً فالتنوير له قوة ونفوذ يتيحان له اختراق الحواجز كلها، لأنه باختصار نور مقابل ظلام وشروق مقابل غروب، وتلك هي جدلية التاريخ في مجمل الصراعات بين من يبني ومن يهدم، وما كان لبناة العالم أن ينجزوا ما أنجزوا كما يقول استيفان زفايج لولا أن مفاعيل البناء ودوافعه أقوى من مفاعيل ودوافع التدمير والهدم. النهضة العربية تعرضت لإجهاض مزدوج منذ ولادتها سواء كان بسبب الغزو الخارجي أو المعوقات المحلية، لكنها لم تمت، ولا تزال آثارها من خلال كتب ودراسات بشرت بالحرية والحداثة تواصل الإضاءة في الذاكرة الوطنية. مهمة التنويري العربي الآن أضعاف ما كانت عليه قبل قرن أو أكثر، لأن القوى التي تمارس الشد العكسي وجدت في الفراغ الفكري مجالاً حيوياً للتمدد، لكنها تبقى أسيرة راهن استثنائي، فالمستقبل ليس حليفها على الإطلاق لأنها مضادة لمجرى التاريخ ولأشواق البشر في التفوق على الشروط التي تحاصرهم، وإذا كان ما وصلنا من التنوير الأول جاء من ثقب إبرة وأنجز ما أنجز، فذلك لأن شمعة واحدة تقهر جيشاً من الظلام.