وأخيراً، اكتمل تحرير مدينة الرمادي عاصمة محافظة الأنبار كبرى المحافظات العراقية على الإطلاق، ومحور الارتباط بين مثلث العراق- سوريا- الأردن، أي أنها، تعد في الوقت ذاته محور ارتكاز مشروع تنظيم (داعش) الدولة النواة أو الدولة المركزية (دولة العراق والشام) ضمن مشروعه الأوسع لإقامة الدولة أو الخلافة الإسلامية. وكانت الرمادي سقطت في أيدي تنظيم داعش قبل أن يستطيع رئيس الحكومة العراقية الجديد حينئذ حيدر العبادي أن يتخذ خطوة جادة لتحرير مدينة الموصل عاصمة محافظة نينوى التي أعلنها أبو بكر البغدادي زعيم داعش عاصمة مؤقتة لدولة خلافته. كان اختيار حيدر العبادي مرتبطاً بتحرير الموصل وإصلاح ما أفسده حكم سلفه نوري المالكي الذي أضاع الموصل ومعها مساحات واسعة من أراضي العراق. وقتها كان السؤال الذي شغل الكثيرين: وكيف سقطت الرمادي؟ كان هذا السؤال مهماً لسبب أساسي، هو أن أحداً لم يقدم إجابة للسؤال الأكثر أهمية وهو لماذا سقطت الموصل؟. أسئلة السقوط كانت مؤلمة، وما كان أشد إيلاماً هو التفسير الذي أجاب عنه وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر رداً على سؤاله لماذا، أو كيف سقطت الرمادي، في حين أن الشغل الشاغل كان تحرير الموصل. تحدث الوزير الأمريكي عما وصفه بدراما الهروب الكبير الذي أعاد إلى الذاكرة كارثة سقوط الموصل، للجيش العراقي، الأقوى عتاداً والأكبر عدداً أمام ميليشيات داعش، وقال إن القوات العراقية لم تبد إرادة للقتال في الرمادي. وأوضح أن الجنود العراقيين لم يعانوا نقصاً في العدد، بل كانوا الأكثر عدداً بكثير من القوات المقابلة، إلا أنهم انسحبوا من المنطقة. وأنهى كارتر تعليقه بالقول نستطيع أن نقدم لهم التدريب والتجهيزات، إلا أننا لا نستطيع أن نقدم لهم إرادة القتال. لم يشغل الوزير الأمريكي نفسه بتفسير لماذا وكيف غابت إرادة القتال عند القوات العراقية عندما قررت الهروب أمام ميليشيات داعش، رغم أنه كان يعرفها جيداً، وهي أن هذه الإرادة تم تدميرها في لحظة تدمير القوات الأمريكية للإرادة الوطنية العراقية عند غزوها للعراق عام 2003، وعندما جرى تمزيق المشروع الوطني العراقي بمشروع التقسيم الأمريكي للوطن العراقي وللهوية الوطنية العراقية إلى: شيعة وسنة وأكراد، وعندما أصبح الفساد هو عنوان الحكم في العراق، وغيره الكثير الكثير مما كشفه وفضحه بعد ذلك حيدر العبادي رئيس الحكومة حول عهد المالكي، وكان مشروعه لإصلاح العراق هو المدخل الحقيقي، بل والدليل الأبرز لتحرير الرمادي، عندما جرى تجاوز الكثير من عوامل الفتنة والتفكيك للوطنية العراقية. الآن وبعد الانتصار الكبير الذي تحقق في الرمادي تتجه الأنظار إلى اكتمال تحرير كل محافظة الأنبار، ثم التوجه بعدها لتحرير الفلوجة انتظاراً ليوم الانتصار الكبير بتحرير الموصل وتطهير العراق كله من دنس الإرهاب وعصاباته، لكن ما زالت الصورة شديدة القسوة والصعوبة لإكمال مشوار التحرير الذي مازال صعباً وشاقاً، ليس فقط بسبب الدمار الهائل الذي لحق بمباني ومؤسسات المدينة، لكن بسبب الدمار الأهم الذي أصاب البنية الوطنية- الاجتماعية لعشائر المحافظات الثلاث: الأنبار- نينوى- صلاح الدين، وما هو متكشف الآن من دمار لحق بالرمادي ومحافظتها الأنبار هو نموذج متكرر لما لحق بالمحافظتين الأخريين. أدق تعبير عن الدمار الذي لحق بمدينة الرمادي: المباني والمؤسسات والشوارع، ما ورد على لسان وزير الدفاع خالد العبيدي بقوله: لم نجد بناية مرتفعة نرفع عليهم العلم العراقي عند تحرير الرمادي، موضحاً أن الرمادي تبدو مدينة أشباح بسبب الدمار والخراب وعمليات التلغيم من جانب عصابات (داعش) الإرهابية. أما أسوأ صورة قاتمة تنتظر إعمار الرمادي وغيرها من المدن الكبرى التي سيتم تحريرها، خاصة الموصل والفلوجة، هي مخاوف معظم السكان، ورغم قسوة الظروف التي عاشوها تحت حكم داعش، من أن يتعرضوا للانتقام بعد تحريرهم من داعش بعد الحملة الواسعة التي انطلقت لتشويه سمعة بعض العشائر بتهمة الانتماء إلى تنظيم داعش، إما لتصفية حسابات من جانب البعض، أو الحصول على النفوذ والزعامة على حساب عشائر أخرى يجري اتهامها، والدليل على ذلك ما حدث من عراك بين ممثلي تلك العشائر في مؤتمر عقد للمصالحة بينها تحت رعاية الحكومة. هذه المخاوف لن تحل إلا بدور تقوم به الحكومة وأدوار تقوم بها العشائر نفسها، ومن أهم هذه الأدوار العودة إلى الاتفاق الذي سبق إبرامه بين زعماء العشائر التي تصدت للإرهاب والذي يتمثل في قيام كل عشيرة بمحاسبة أفرادها الذين تورطوا مع تنظيم داعش. هذا الحل يفترض توافر قناعتين، الأولى، أنه لا توجد عشيرة لم ينخرط بعض أبنائها في صفوف داعش. الاعتراف بذلك هو الخطوة الأولى للحل. أما القناعة الثانية، فهي أن قيام كل عشيرة بتحمل مسؤولية محاسبة أبنائها سيحول دون تفجر حرب تخوين شعواء بين العشائر، وهذا التخوين المتبادل سيكون بمثابة نار سوف تقضي على كل ما تبقى من الأخضر واليابس من الحياة والعلاقات الاجتماعية بين أبناء هذه المحافظات. نجاح العشائر في القيام بهذه المهمة في حاجة أيضاً إلى تجديد دعوات سابقة لتشكيل لجنة حكماء في محافظة الأنبار ويمكن أن تتشكل لجان أخرى مشابهة في محافظتي صلاح الدين ونينوى في حالة نجاح تلك اللجنة، تكون مهمتها تنسيق العمل بين العشائر للقيام بأدوارها في محاسبة المتورطين من أبنائها في التعاون مع داعش، انطلاقاً من إدراك خطورة عدم القيام بهذه المهمة، ليس من باب العقاب والمحاسبة للمتورطين فقط، ولكن من باب التحسب لتغلغل داعش بين أبناء العشائر، لأن داعش ليس مجرد تنظيم وميليشيات، ولكنه قبل هذا كله فكرة وإذا لم يتم محاصرة كل المتعاونين والمتعاطفين فإن هؤلاء يمكن أن يواصلوا نشر الأفكار ويفاجأ الجميع بأن داعش يتجذر في التربة الاجتماعية والفكرية للعراقيين، وهذا هو الخطر الحقيقي. أما الخطر الثاني الذي لا يقل أهمية، فهو ضرورة التحرك على مستوى النظام العراقي كله لمحاصرة صراعات الهوية والميليشيات بين الحشد الشعبي وفصائله، والعشائر السنية والمنتسبين إليها. فالصراع ليس فقط بين ما هو حشد شعبي مدعوم من إيران، وعشائر سنية مدعومة من الأمريكيين، لكنه أيضاً صراع داخلي بين تنظيمات الحشد الشعبي، وصراع داخلي بين القبائل، ومن ثم سيجد العراق نفسه متورطاً في صراعاته الداخلية، ويعود مجدداً مخطط التقسيم الذي يتزعمه الأمريكيون، وفي مقدمتهم جون بايدن نائب الرئيس الأمريكي وصقور الجمهوريين الأمريكيين، خاصة السيناتور جون ماكين رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، والسيناتور ليندسي غراهام عضو هذه اللجنة وأعضاء آخرين كانوا قد دعوا إلى تشكيل قوة من 100 ألف جندي من دول المنطقة (السنية) لقتال (داعش). انطلاقاً من فكرة يروجون لها وهي أن الحرب ضد داعش في العراق يجب أن تكون على أيدي قوات سنية من دون مشاركة إيرانية، أو من الحشد الشعبي بفصائله الشيعية المختلفة، وهي دعوة تقدم لفكرة أخرى هي إقامة الكيان السني في وسط العراق بعد تحريره من داعش ليحاربوا الكيان الكردي في شمال العراق، ومن ثم تكون هذه كلها خطوات فعلية لفرض خيار تقسيم العراق، وهو الخيار الذي ما زال أثيراً لدى كثير من المسؤولين الأمريكيين. إبعاد الحشد الشعبي عن معارك تحرير الرمادي كان بضغوط أمريكية، في الوقت الذي حرص فيه الأمريكيون على إظهار ثقل الدور الأمريكي في معارك تحرير الرمادي في إشارة إلى ما يعنيه هذا الدور من إعادة تأكيد لأولوية الوجود الأمريكي في العراق بكل ما يستلزمه هذا الوجود من نفوذ وسيطرة على واقع العراق ومستقبله، وبكل ما يحمله هذا النفوذ من أملاءات وضغوط تهدد استقرار ومستقبل العراق.