ترفض دلال البزري عند تعريفها كتابها الجديد "سنوات السعادة الثورية " فكرة الذاكرة واستعادتها حين تقول "هذا الكتاب ليس عن الذاكرة، ولا عن الحنين، ولا هو مذكرات أو ذكريات أو شهادة تاريخية، أو سيرة ذاتية، ولا هو رواية، إنه حكاية نصف واقعية، نصف متخيلة." ولكنها تبدأ مقدمتها مستشهدة بمقطع من رواية لجنكيز ايتماتوف يحكي فيها عن قتل الذاكرة عند الأسير، فتعقّب قائلة: "تحطيم الذاكرة هو تحطيم للإرادة وللوعي بالذات، كسر للإنسانية وتسهيل لكل أصناف الإذلال والاستغلال". وتبرر استرجاعها لهذه القصة، بخطر حروب الأديان والمذاهب المشتعلة في المنطقة: "خطر محو ذاكرتنا الفردية والجماعية ". لعل أبسط تعريف لهذا التناقض هو ما يمكن تسميته المكوث عند تلك الاندفاعات الثورية المشاكسة التي تبقى تبحث عن الاختلاف حتى في التشابه، حيث كل شيء قابل للدحض. لعل زمن الالتزام الثوري الذي تحكي عنه البزري في كتابها هذا، هو زمن ترتيب فوضى المشاعر والطموحات والرغبات التي لا تعرف بوصلة في المراهقة والشباب الأول. كأنما كانت هناك والماضي يلوح مثل بندول عرف اتجاه حركته. ربما يكون بمقدورنا فهم سر ابتسامتها وهي تجوب شوارع بيروت وتأتيها ومضات "مثل فلاشات السينما، خاطفة سريعة، في وسط النهار. سيل يوقظني من سبات ذاكرتي، يضغط على نهاري.". نحن نكتشف "حكاية الرفاق والرفيقات" في الاجتماع الأول لشابة صغيرة أقرب إلى عمر المراهقة، تسجل حضورها في "منظمة العمل الشيوعي" قبيل الحرب الأهلية. ترقب المكان والرفيق الذي يدير الاجتماع، ولا نعرف هل هي الرغبة القصصية التي تجعل بؤرة سردها تتجه أولاً إلى هذا الرفيق، أم التنقّل بين الوفاء للحظة المنتهية في الحكاية وحاضرها الممسك بتلابيبها: " يدخل علينا متجهماً، عابساً، ناشفاً، مهموماً، قليل الكلام، يلقي كلامه بطريقة توحي بأنه الكلام الفصل وما علينا سوى التنفيذ " كيف لصبية أن ترى في " الرفيق المسؤول" معنى غير الذي يكون فيه مشغولاً ومهموماً وينتظر من رفاقه التنفيذ. لعله خروج عن متعارفات الباعث الأول لانتماء من هكذا نوع. أفضل تعريف للانتماء أو الالتزام في الأحزاب الثورية هو الطاعة، الامتثال، القبول بدون اشتراطات، هذه هي قواعد اللعبة مذ صاغت أصوله تلك التنظيمات الصارمة التي اندفع إليها الشباب في بقاع مختلفة من العالم. الماضي في هكذا استعادة، يشكل جزءاً من المغزى الذي بمقدورنا أن نتخيله كما نشاء، فمن كان يدرك سر اندفاعه الشخصي نحو فكرة "الالتزام" حيث تكتسب في الإطار العام "المجتمعي" معنى "التمرد"، التمرد على ما يريده الأهل وما تريده المدرسة وما تريده نزعات الخوف والخَفَر والتردد، تلك السمات التي ينبغي أن تكتسبها المراهقة العربية. بطلة الحكاية تجوب ورفيقها شوارع بيروت كي تجمع التبرعات لفصائل المقاومة الفلسطينية أمل الثوار العرب بعد نكسة حزيران. هكذا تبدأ دلال البزري سنوات سعادتها الثورية. لعل وضع الحكاية في إطار خيالي، يمنحها روحا وجسداً نابضاً كما ترى الساردة. فالتاريخ بارد وممل ولا يعني الكثير للأجيال الجديدة وبينهم احفاد المؤلفة الذين تضجرهم العربية. إذن من هنا تبدأ حكايتها مع الرفاق كشخصيات روائية مطواعة ومهيئة كي تتحول إلى نماذج في كل الأماكن والظروف على ما تحمل من خصوصيات. وحيث فكرة " البطولة" تعني في الزمن الثوري "الاختلاف"، فابطال الحكايا تتفاوت دوافعهم لخوض التجربة الثورية، منهم من يدفعه الصراع الطبقي، ومنهم من يريد الخروج من حياته المملة، ولكن أكثرهم يبحثون عن انجاز يصل حد الذهاب الى آخر الشوط. أول الشخصيات "عارف" كان يبحث عن حريته الجنسية، كما كان يقول لرفاقه، فهو ابن العائلة الثرية التي صادفت رحلاتها إلى باريس ثورة المدينة الشبابية 1968، فاستهواه شعارها " ممنوع المنع". أما "سامية" فقد قادها شغفها بالقراءة إلى العثور على كتاب "أصل العائلة" لفردريك انجلز، فعلقت بفكرة المساواة بين المرأة والرجل. والرفيق "جان" أقرب إلى التنظيم الشيوعي بحكم انتمائه الطبقي، فهو ابن المصيطبة الحي الفقير ببيروت، توفي والده وعاش فقيراً تكّد والدته وتخدم في بيوت الأثرياء كي توفر له ولأخيه عيشاً كريماً. ثم غسان ابن الجنوب البار، كما تقول الساردة، ولديه غير سبب، فهناك فضلا عن الفقر صراع الوجود في الحدود المتاخمة لفلسطين. انه يتبع بوصلة الأخ الشهيد في اشتباك مع اسرائيل. اكتشفت البطلة في النهاية أن كل حكايات الرفاق والرفيقات عن دوافع انتمائهم كانت ملفّقة. إذن عليها تجاوز الحكاية إلى ما بعدها إلى علاقتها هي كحلقة صلة تجمع أطراف الحبكة وهي تتبعثر بين الشخصيات. كان أعضاء الخلية الأولى يجتمعون في غرفة عارف الثري الذي يسمعهم قبل بدء الاجتماع اسطوانات حديثة والنشيد الأممي بالفرنسية. يشرح بالعربية للرفاق الفقراء ما تعنيه الكلمات، فهذه اللغة لا يحسنها سوى أبناء النخبة. عارف المهرّج الوسيم الذي تصحبه البطلة لجمع التبرعات من منطقة الروشة، الاثنان يتفاهمان بالفرنسية، تساعدهما اللغة على رفع مبالغ التبرع في المقاهي التي يرتادها الثوريون الأجانب ببيروت الستينات، مقهى " الدولتشي فيتا" مقصدهما حيث يمتزج المزاج الثوري مع تدخين افضل السجائر والحياة الهانئة، كما هي الترجمة العربية لاسم المقهى الايطالي. "نخجل من كوننا على هذا القدر من الفرنكفونية، لا نتفوه في الاجتماعات بكلمة فرنسية واحدة الا إذا أضعنا تركيزنا ". ولكن التنظيم يرى في الفرنسية امتيازاً فيلحق الذين يرطنون بها في خلية واحدة. يحظى ابناء الذوات بمكانة خاصة على عكس ما يُظن به. من ساحة البربير تنطلق التظاهرة التي توصف بالتاريخية، تموز 1970. جموع من الطلبة تمتد حتى البسطا فوقا، ومثل هدير القيامة يهتفون: " مين اللّي قام تيدافع... مين اللّي هزّ المدافع " هؤلاء المدافعون وحدهم أمل تلك الجموع وغايتها، الأصوات الهادرة التي تحولت وقودا لمدافع الحرب الأهلية المقبلة. من هنا تبدأ كل حكايات لبنان الثورية مطلع السبعينات التي تسردها دلال البزري، حكاية حياتها التي لا تحتمل عبء مشاعر الندم أو الخسران. طريقة في الإعراب عن ما هو فوق مفهوم الثورة ومغزاها وأهدافها ومصائرها. ولكن سقف تلك الحكاية لا يتعدى المحاولة القصصية التي كُتبت على عجل كمن يتخلص دفعة واحدة من حمل ثقيل. إنها تستظل بتلك اللغة المتسارعة التي تتجنب فكرة الإدانة، ولكنها تتشارك مع قارئها بشيفرات التبليغ، تتواطأ على ما يمكن ان يشكل بهجة الاستذكار، على الخيال الذي يشابه الحقيقية ويقولها على نحو موارب: " جمال سذاجتنا مقابل سعينا الحثيث للثقافة، براءتنا مقابل تعالينا على الذين لم يعوا ما نعي، عقلانيتنا مقابل جنونننا، حنانا مقابل قسوتنا، حريتنا مقابل دوغمائيتنا " هي تجمع ما يجتمع في نزق الشباب واندفاعته، في خفة تلك اللحظات التي يطير فيها الجسد وهو يثب أمام ظل الحياة وخلف شاشتها التي تومض قبل ان يغادر الناس عرضها الأخير.