علينا في البدء التأكيد على أن الحديث هنا إنما هو حديث عن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتبارها مؤسسة حكومية رسمية لها نظمها ووظائفها، كما أن لها كوادرها الذين هم موظفون مثلهم مثل أي موظفين في أجهزة الدولة ومؤسساتها، وهذا يعني أن علينا أن نفرق بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتباره شعيرة دينية ينهض بها المجتمع كله احتسابا للأجر والثواب من عند الله، والهيئة باعتبارها مؤسسة يعمل العاملون فيها باعتبارهم موظفين يتقاضون أجرا على ما يقومون به، وهو تفريق طالما تجاهله الذين يحتجون بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلما انتقد منتقد ممارسات بعض منسوبي الهيئة أو طالب بتطوير وضبط أدائها. وعلينا في الوقت نفسه أن نفرق بين وظيفة رجال الحسبة التي كانوا يزاولونها قبل قيام المؤسسات الأمنية والرقابية والوظيفة التي يمكن أن تنهض بها مؤسسة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذلك أن كثيرا من الأعمال التي كانت تقوم بها توزعتها تلك المؤسسات على النحو الذي تحدث عنه الصديق قينان الغامدي في مقاله المنشور أول أمس. وإذا كان قيام المؤسسات الأمنية والرقابية قد حمل عن الهيئة كثيرا من مهامها التي كانت موكولة إليها، إن لم يكن كل المهام، فإن هذا يستدعي أحد أمرين، أولهما ما يراه بعض الكتاب من حيث التقليل من أهمية وجودها كمؤسسة، مع التأكيد على أن إلغاءها لا يعني إلغاء الشعيرة نفسها ممثلة في «تناصح» المجتمع بالمعروف و«تناهيه» عن المنكر، وثاني الأمرين أن يعاد النظر في طبيعة عمل الهيئة وفق إستراتيجية تكفل عدم تداخل أو تعارض عملها مع بقية المؤسسات الرقابية والأمنية الأخرى، ويحفظ لها بقاءها واستمرارها كجهاز يحمل اسم الشعيرة دون أن يكون الممثل الوحيد لها، ولذلك فإني أرى أن تؤول هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى جهاز ممثل للتناصح والتناهي يمثله رجال ونساء يجتمع فيهم العلم والحكمة يلجأ إليهم المجتمع حين يحزبه أمر كما يلجأ إلى جمعيات إصلاح ذات البين مستنصحا ومستشيرا، كما يمثل هذا الجهاز روح المجتمع وضميره الحي الذي له من المكانة في المجتمع ما يجعله مصغيا لنصحه إن نصح ومستجيبا لأمره إن أمر ومطيعا لنهيه إن نهى كما كان المجتمع يفعل مع إمام المسجد ومعلم الكتاب وكبار السن من رجاله أولئك الذين لا يملكون من سلطة على المجتمع غير حسن سيرتهم بين الناس وثقتهم فيهم وفي حرصهم عليهم.