اقتصاد جزيرة العرب لطالما كان اقتصاد ندرة، حيث شح الماء وقسوة الطبيعة، ما خلق موجات متتالية من القبائل النازحة، أما من بقي منهم فقد أسس له حزمة من القيم الاجتماعية تحميه في مواجهة طبيعة متجهمة، فوحدة القبيلة المغلقة على ذاتها وأفرادها كستار أولي للحماية، وقيم الكرم التي تقارع مخاطر التيه والفناء في الصحراء تقابل خطاب الغزو والسلب لذا سمى بعض المؤرخين العربي قاطن الصحراء (الوهاب النهاب). يقول المقدسي في كتابه أحسن التقاسيم واصفا بعض أقاليم جزيرة العرب (وأصحاب هذا الأقليم أصحاب قناعة ونحافة، سمر يغلب عليهم الدقة والهزال، يتقوتون باليسير من الطعام، ويتجوزون بالخفيف من الثياب، وقد أكرمهم الله تعالى بخير الثمار وسيدة الأشجار، التمر والنخل). بينما قيم الجمال كانت أيضا تخضع لقانون الندرة وتجليات الخصب والنماء، فكان الاكتناز والبدانة مؤشرا مما على الحيوية والجمال. بحيث كانت المرأة البدينة المكتنزة التي ينوء جسمها بثقلها وترتج بشحمها ولحمها نموذجا فاخرا للفتنة، يقول الشاعر الأعشى في معلقته واصفا نموذج الجمال الأكمل لتلك المرحلة :- يَكَادُ يَصرَعُهَا، لَوْلاَ تَشَدُّدُهَا إِذَا تَقُومُ إلى جَارَاتِهَا الكَسَل هرْكَوْلَةٌ فُنُقٌ دُرْمٌ مَرَافِقُهَا كَأَنَّ أَخْمَصَهَا بِالشّوْكِ مُنْتَعِلُ وظلت تلك القيم الجمالية مستقرة في الوجدان الجمعي، دون أن تتزحزح، حتى وقت قريب إلى درجة أن البدين كان يسمى متعافيا، والبدانة يسمونها صحة! واصطحبنا تلك القيم الجمالية باتجاه زمن الطفرة والرفاه الاقتصادي ما أدى إلى الكوارث الصحية التي باتت تطالعنا بها الأرقام. وبعد أن احتلت المملكة المرتبة الثالثة عالميا في انتشار مرض السمنة، ما اضطر وزارة الصحة إلى عقد ملتقى لسبع جهات حكومية تهدف إلى تحسين نمط الحياة الصحية في المملكة، بعد أن بلغت نسبة الوفيات الناتجة عن أمراض متعلقة بالسمنة مثل ارتفاع ضغط الدم وتصلب الشرايين والسكتة الدماغية 71% من مجموع الوفيات. فنمط الحياة المسترخي الذي مابرح يتكئ على تقاليد الندرة، في زمن الوفرة الفائضة من الغذاء، وازدحام المنازل بالخدم، جعل من السمنة وباء محليا مهددا. ورغم أن القيم الجمالية في الوقت الحاضر خلعت عنها معطف الشحم واللحم، لصالح القد الأهيف كرمح والرشيق كغزال،إلا أن الشفرة الجينية لأجسادنا مابرحت تعمل وفق قانون الندرة فتسارع للاكتناز والتخزين. غياب الرياضة والنشاط البدني والوعي الصحي عن فضائنا المدني سواء عبر المدارس أو مراكز الأحياء. أيضا غياب الأنشطة الثقافية والترفيهية وشحها بشكل جعل الطعام جزءا رئيسا من متعة نشاطنا الاجتماعي ومناسباتنا، (إعداده، تذوقه، والبحث عنه ومطاعمه) مع تورط جمعي بالدرك الإنساني الأولي من الغرائز. جميع ماسبق يحيلنا إلى أرقام مفجعة.. دون وجود جرس عملاق يقرع نواقيس الخطر ضد وباء يكمن وراء 71% من حالات الوفاة في المملكة. لمراسلة الكاتب: oalkhamis@alriyadh.net