"شكرا لكم.. شكرا لكم.. فحبيبتي قتلت.. وصار بوسعكم أن تشربوا كأسا على قبر الشهيدة وقصيدتي اغتيلت.. وهل من أمـة في الأرض -إلا نحن- تغتال القصيدة؟ بلقيس.. كانت أجمل الملكات في تاريخ بابــل بلقيس.. كانت أطول النخلات في أرض العراق كانت إذا تمشي.. ترافقها طواويس.. وتتبعها أيائل.. بلقيس.. يا وجعي.. ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل" نزار قباني يبدأ النص بالشكر بعد أن قتلت زوجته والشكر هنا خرج عن معناه إلى الضد؛ فهو لا يشكر القتلة حقيقة بل يلومهم بعنف ولغته لا تبتعد عن اللطف! أما أحمد مطر فيقول عن خوفه من الرقباء: "ثم.. بكل رباطة جأش أودعت الصفحة إمضائي وتركت الصفحة بيضاء! راجعت النص بإمعان فبدت لي عدة أخطاء قمت بحك بياض الصفحة.. واستغنيت عن الإمضاء" في الفن القولي شعرا أو نثرا يدخل الوصف واللغة والخيال في تشكيل الفكرة؛ وفي الوقت الذي يتفاوت فيه الإبداع من عصر لعصر ومن أديب لآخر؛ بل بين نصوص الأديب نفسه؛ حتى نجد تفاوتا يسمو للتفوق في نص ويفشل في نص آخر، و لا يمكن أن نصل دائما للمعنى الذي أسكنه الأولون في بطن الشاعر لأن الشاعر أحيانا يجهل الدافع الذي دفعه للجودة في نص والإخفاق في آخر! تبقى مؤشرات ومؤثرات يتلمسها الناقد أو القارئ الحصيف ومنها ثنائية اللغة والفكرة التي تعبر عنها والعاطفة والخيال اللذين يسموان أو يخبوان؛ أما المتذوق البسيط أو صاحب الذائقة المحدودة قد يستشعر الجمال لكنه يقف مدهوشا أمامه كمن يقف أمام منحوتة أو لوحة أبدع فنانها تفاصيلها لكنه يحار في سر جمالها وقد يطلق عبارة تعبر عن الإعجاب ولكنها لا تكتشف كنهه! النص يبدأ سموه من فكرته؛ فالفكرة التي يؤمن بها صاحبها -ولو كانت باطلا- يدعمها بما يقدمه في صورة مشرقة لأنها تنطلق من إيمان أو معايشة وربما معاناة شخصية أو هم عام. وهذا الإيمان يعطيه قوة تصمد أمام غيرها من الأفكار إلا لو وقع صاحب الباطل في مواجهة صاحب الحق حينئذ (فالحق أبلج والباطل لجلج) كما يقال، وربما السر هنا أن صاحب الفكرة الخطأ يعتريه الخوف والارتباك والضعف لأنه يدرك ضعف باطله أمام قوة حق غريمه. دعوني أمثل بشاعر يهودي يسكن في فلسطين المحتلة ويعبر عن خوفه وقلقه المشروع من أن يصاب أو يطعن أو يقتل؛ سيكون هذا الشاعر مقنعا إلا لو وقف أمام حنين درويش لخبز وقهوة أمه ورائحة الوطن المخطوف الذي يسكنه هذا الغاصب! الفكرة السامية تسمو بالنص؛ ولكن هذا السمو يحتاج إلى أن يرتدي لغة مناسبة تعبر عن الجمال بجمال مواز؛ ما أجمل كل نص امتلك قائله خزائن اللغة يختار منها ما يشاء ويقصي ما لا يراه ملائما. اللغة الثرية تنبع من معاقرة النصوص الجميلة والتلذذ بها سماعا وقراءة وتأملا؛ وأزعم أن في زمننا الحاضر ما زال الشاعر الذي يقترب من البداوة يبتعد عن الإسفاف؛ لأن للعروبة ذائقتها التي تنتقي لترتقي. الشاعر البدوي والشاعرة البدوية لا يحتاجان إلا إلى القليل من التعاطي مع اللغة لأنهما -بزعمي أيضا- سدنتها لا مجامع نحو وصرف، بل تحدثا ونطقا. والشاعر البدوي قاموس شفهي متنقل يزيده التفاصح جمالا. وقد كانت لغة العرب ترفض العنف حتى ولو كان واقعا، فالمريض يسمى سليما والأعمى بصيرا والمهلكة مفازة تيمنا وفألا. ما أجمل الثراء اللغوي حين ينضح من إناء شاعر! الحديث بغضب ديدن بعض الشعراء الذين يعبرون عن الأوضاع السياسية والثقافية والاجتماعية ومن مستشهد بأحمد مطر كشاعر غاضب وصل إل ما وصل بعنف يمكن القول إن أحمد مطر في نص (الرقباء) لم يكتب شيئا ليعجب الرقباء، وراجع البياض واكتشف بعض الأخطاء وحك البياض ثم خاف ومسح الإمضاء عن النص الفارغ؛ وهذا ليوصل ما يريد الشاعر بمهارة؛ ألا وهو أن الرقيب يصبح هاجسا يمنع الشاعر من الكتابة مخافة الخطأ. أمر مهم في الحكم على لغة نص أن اللغة العنيفة القاسية تنضو عنها ثياب جمال الفكرة؛ ويكون لها صداها الذي قد يدهش ولكنه لا يصمد أمام مقاييس الإبداع الصارمة التي تقبل من الشعر رقته في الحب وتقبل منه قسوته في الحرب والفخر. تأتي ثنائية العاطفة والخيال؛ وبهما يرتقي النص للغموض الذي يحمي الكاتب أو الشاعر من المحاسبة؛ ولكنه يوصل رسالته ربما بعمق أكبر! المباشرة تناسب النصوص المقدمة لوعي عامة الناس وتصل إليهم ولكنها تبقي النص حبيس زمانه؛ وكأنه خطبة من خطابة المناسبات تنتهي بنهاية مناسبتها. يمكن للكاتب أو الشاعر أن يقول ما يريد من خلف أستار الاستعارة الشفافة؛ أو من خلال تهويمات الخيال فتحلق امرأة لزمان غير الزمان؛ أو يمكن أن يعبر كاتب المكان ويسقط ما يريد قوله على الآخر والآخر هنا هو الأنا! برأيي حفظ النفس والحياة بعيدا عن التجريم والمحاسبة يستلزم ذلك. وأختم بما يقال من أن بعض الشعراء عبروا بالسرحة وهي نوع من الشجر عن الحبيبة خوفا من اللوم فقال أحد الشعراء: فيا سرحة الركبان ظلك بارد... وماؤك عذب لا يحل لشارب وقال الشاعر حميد بن ثور: "أبى الله إلا أن سرحة مالك... على كل أفنان العضاه تروق فهل أنا أن عللت نفسي بسرحة... من السرح موجود عليّ طريق"