×
محافظة المنطقة الشرقية

100 مليون اكتتاب في شركة تعليمية بعسير

صورة الخبر

يحدث أن تستوقفنا أحيانا بعض خطابات الدعاية التجارية، فنشمئز من تفاهتها ولا منطقيتها، وقد نتساءل أحيانا عن حقيقة فاعليتها في جذب المستهلك. كما قد نبالغ في تأمّلنا إلى الاندفاع في التفكير في عواقب شيوع مثل هذا النوع من الخطاب على الوعي العام للمجتمع. في الحقيقة ربما يحدث هذا لأغلبنا عند تصادف أحد هذه الخطابات مع لحظة استنارة واعية. يعد حقل الدعاية والإعلان من أكثر المجالات تطورا واعتمادا على الحديث من نظريات العلوم الإنسانية بشكل عام، وهذا مفهوم إزاء ما يستند عليه هذا الحقل من تمويل رهيب تدعو إليه المصالح الرأسمالية المعاصرة. من النظريات الحديثة المهمة التي تعتمد عليها صناعة الإعلام نظرية تربط بين (الذاكرة الانفعالية) و(التكرار) و(التعرّف). لتبسيط مفهوم الذاكرة الانفعالية علينا أن نعرف أننا عندما نتعرض لخطاب معين لا نتذكر أجزاءه بنفس القدر، بل إن هناك من الأجزاء ما تفوق غيرها بقدرتها على الانطباع في الذاكرة، وهي الأجزاء التي أثار ورودها علينا نوعا خاصا من المشاعر، أما على النحو الإيجابي كالدهشة أو الفرح أو على النحو السلبي كالغضب أو الحزن أو حتى الاشمئزاز، فذاكرة مشاعرنا هي الجسر الذي تعبر عليه بقية الصور المسترجعة من الماضي. يقرر السيكولوجيون المتخصصون في مجال الدعاية أن هناك حيزا زمنيا ضيقا ترتفع فيه احتمالية نفاذ الحدث إلى الذاكرة الطويلة الأمد عند تزامنه مع إثارة شعور معين، ويقدرون ذلك بفترة تتراوح من 4 إلى 10 ثوانٍ، وهي الفترة التي لا تتطلب من الدماغ القيام بأي جهد ذهني في العادة. لعل هذا ما يفسر اعتمادهم بعض تكنيكات الصدمة في لحظات قصيرة من الإعلان في العادة. أهم ما يشغل خبير الدعاية هو إلصاق اسم منتجه في الذاكرة من خلال الذاكرة الانفعالية بغض النظر عن سلبية أو إيجابية الشعور الذي يثيره إعلانه لدى المتلقي، ولذلك فإنك عندما تشعر بالاشمئزاز من إعلان ما فإنك تحقق بعض ما يطمح إليه في الحقيقة. يأتي بعد ذلك دور التكرار في الوصول إلى درجة أعمق من الطبع في الذاكرة. ولكي نفهم أهمية الدور الذي يلعبه التكرار في الإقناع علينا ملاحظة سلوكنا مع الأطفال عندما نلجأ إلى تكرار ما نريد طبعه في ذاكرتهم، حيث يحل تكرارنا هنا محل الإقناع المنطقي بأهمية ما ندعو إليه، انطلاقا من علمنا بعجز عقل الطفل عن استيعاب الحجج المنطقية في الغالب. من المؤسف أننا حتى بعد أن نكبر يظل فينا هذا الجزء الذي يفضل الاقتناع من خلال التكرار على الاقتناع بواسطة الحجج المنطقية. (كرّر لأعرف أهمية ما تقول فلا طاقة لي بأن أكلف نفسي عناء اختبار الحجج)، هذا هو لسان حال أدمغتنا في الغالب. أما الجزء الأخطر في هذه السلسلة الثلاثية فهو ذلك الدور الذي يلعبه (التعرّف)، فالدماغ مجبول في الغالب على الميل إلى ما يعرف وتجنب ما يجهل بغض النظر عن الطريقة التي تكونت بها هذه المعرفة. هذا ما يفسر سلوكك عندما تجد في نفسك الميل لشراء ما تعرفه من المنتجات دون أن تتذكر مصدر تلك المعرفة، وليس بعيدا أن يكون المصدر هو أحد مشاهد الدعاية الذي أثار اشمئزازك في موقف سابق. يذكر (غيوريغيفيتش) وقبله (شيلر) وكلاهما ألّف كتابا عن (التلاعب بالوعي) أن كثيرا ممن يفوزون في الانتخابات لا يشكل دافع معظم ناخبيهم الأصلي سوى حفظهم أسماءهم وملامحهم، وكل ما عدا ذلك لا يعدّ أكثر من محفزات جانبية. صحيح أن بعض الدعايات التسويقية قد تستخدم ما يشبه الخطابات المنطقية في بعض أجزائها، ولكنها في الحقيقة ليست إلا أجزاء يستعان بها من أجل تمرير ما يراد تمريره إلى الذاكرة من خلال الانفعالات وليس الأفكار. أخيرا يدرك المسوقون أهمية مواصلة التكرار حتى بعد الوصول إلى نتائج مرضية نسبيا، وذلك لتفادي (التأثير الغافي)، وهي ظاهرة يزعم وجودها كثير من علماء النفس عند كلامهم عن عمليات الذاكرة والتأثير الغافي، كما يعرفونه هو "وجهة النظر الملقاة في طبقات الذاكرة الكامنة التي همشت مسبقا تحت ضغط عمليات التذكر الانفعالي، حيث تثب فيها الحياة من جديد على شكل تصوّر غامض في البداية ثم إلى رأي واضح يتراجع أمامه ما تمّ تبنيه انفعاليا". لذلك يرى المتلاعبون بالوعي أهمية قمع هذه العملية الذهنية التحولية باستمرار، ولعل هذا ما يفسر حرص الاستعماريين على تدمير الذاكرة التاريخية لدى الشعوب المستعمرة، فالعريّ التاريخي يخلق جاهزية مناسبة للتلاعب الدائم بالوعي الجمعي من خلال حملات الذاكرة الانفعالية، ومن يدري لعل لهذا علاقة بما يحدث لآثار المنطقة على يد الجماعات الإرهابية في هذه الحقبة البائسة. أخيرا من المهم أن نعلم أهمية صون ذاكرتنا وحمايتها من سطو المتسللين، سواء كان ذلك على مستوى الأفراد أو المجتمعات، فالذاكرة حصن الهوية، والهوية صك الكرامة الآدمية المعلن في وجه الظلامية والاستعباد.