بإمكان الإسعاف ألا يكون دراميّاً! عندما كنت صغيرة - في الواقع إلى أن كبرت - كان أول ما يمرّ بذهني فور رؤيتي لسيارة إسعاف مسرعة هو المصيبة. أية كارثة حلّت بالمريض الذي تحمله سيارة الإسعاف هذه؟ ما الذي جرى؟ أهو حادث سيارة؟ مرض خبيث أنهكه؟ هل يموت؟ هل يقدرون على إنعاشه؟ أسئلة كثيرة تملؤها الشفقة والشعور بالحسرة على مريضٍ لم ألتقِ به قط. بقيت على هذا الحال إلى أن صرتُ أنا المحمولة في بطن السيارة. وقتها فقط غابت عنّي أحاسيس الشفقة والقلق. كنتُ مطمئنّة في حين كان الآخرون من حولي يترقبون استقرار حالتي بفزع، وربّما بشفقة، بعد اصطدامي بسيارة وإصابتي بعدّة كسور خطرة في دولة أعدّ فيها غريبة. وفي طريق عودتي للبحرين، أقلّني الإسعاف إلى المطار، وفي البحرين من المطار إلى المشفى، ورغم أنينه وتشاؤم الناس من سماع صوته، إلا أنني كنت أعيش في حالة سلام داخلي... ولم يكن الإسعاف يومها دراميًّا! هناك ما لا نريد الإصابة به، ما نراه خبيثاً. ولكن لو - لا قدّر الله حدث وأصبنا به، فإنه لن يكون بالدرامية التي يصفها الناس المتفرجون، كالحادث الذي أصابني مثلاً. لم أكن لأتمناه، ولكن، بما أنه حدث، فإنني الآن لست أراه بعيون المرأة التي كانت تشفق على من بداخل سيارة الإسعاف. لأنني صرتُ داخل الدائرة فجأة، بعد أن كنتُ المتفرّجة. وكم للدائرة من فضلٍ في تغيير الزاوية التي ننظر لكلّ شيء من خلالها. نتألم لغيرنا، نبالغ في التعاطف، يترجم في شفقة لو أسكتنا كلماتها لن نخمدها من العيون، يتأذى غيرنا ممن لا نملك علّته، لا يهمّنا ذلك. ونحافظ على شفقتنا، ليس بيدنا حيلة في التحكّم بمشاعرنا... ولكن لو صرنا في مواقعهم، تختفي الشفقة، لأننا لم نعد نتعامل بمنطق الـ هُم ونَحنُ، صرنا نحنُ فقط. قاعدة تُطبّق على كل أصحاب العلل والعاهات، بمن فيهم مرضى السكلر. نظرة الهم للنحن تمنعهم في الكثير من الأحيان من الحصول على وظيفة. وتلك مشكلة قد تواجه المصابين بالسكلر حتى في الولايات المتحدة الأميركية. إلا أن قانون الإعاقات الأميركي American with Disabilities Act يحميهم من التعرّض للتمييز قدر المستطاع. يعرّف القانون الإعاقة بثلاث طرق: - أنت معاق إن كنت تعاني من مرض جسدي أو عقلي يؤثّر على أكثر من جانب في حياتك. - أنت معاق إن سبق لك الإصابة بهذا المرض. - أنت معاق إن كان الآخرون يعتقدون بإصابتك. إن كان السكلر قد منع أحدهم من مزاولة حياته اليومية في فترة ما أو مازال يمنعه من ذلك فالقانون يصنّفه ضمن الخيارين الأولين. أما لو كان يتعرّض للتمييز من قبل المسئول عن توظيفه مثلاً فقط لأنه يحمل اسم مصاب بالسكلر رغم أنه لا يعيقه عن حياته فالقانون يضعه في الخيار الأخير. يلعب التمييز والانحياز الضمني دوراً في حرمان المصاب من الوظيفة، إذ إن مسئولي التوظيف لا يمتلكون في أذهانهم غير الصورة الدرامية التي صنعوها عن السكلر في أسرّة المستشفيات، الألم والصراخ والحقن الكثيرة. ويصرّون على عدم تجديد هذه الصورة وبقائها دراميّة كما هي، وفي النهاية، يدفع المقبل على الوظيفة ثمن الصورة التي شكّلوها عنه قبل تقديمه للوظيفة. لا يسمح هذا القانون لأحد بمنع مصاب بالسكلر من وظيفة ما إن كان مؤهّلاً إليها وإن كان يستطيع القيام بالمهام الأساسية للوظيفة، كما لا يتطلّب من المصاب إخبار مسئوله عن مرضه ولا يحقّ للمسئول سؤاله عن إعاقة ما. لا يسمح أيضاً للمسئول بطلب اختبار للدم منه إلّا إن كانت الوظيفة تتطلب هذا الاختبار، وكان جميع من تقدّم للوظيفة سيخضع للاختبار. وإن انحاز ضد مصاب بالسكلر يملك الشخص الحق في رفع قضية ضد مسئوله، وإن كسب القضية يتم تعويضه ماديّاً ويعود للوظيفة التي كان يستحقّها. ولا يعطي هذا القانون الأولوية لتوظيف الشخص الذي يخضع لما يعرّف بالإعاقة، بل يسعى فقط لمساواة الفرص المتاحة إليه بالتي يقتنصها غيره ممّن يتحلّى بمؤهلات موازية. لا يخالف تمييز من هذا النوع القانون فقط، ولكنّه ينافي أخلاقيات العمل أيضاً. نجدُ قوانين الإعاقة في كلّ بلد ولكن الالتزام بها وتطبيقها يتفاوت من بلدٍ لآخر، ولتخفيف التجاوزات القانونية بإمكاننا التشديد في هذه القوانين، ولكن كي نعالج القضية من جذورها علينا النظر في التمييز من منظور اجتماعي. لا يصحّ لأي مسئول أن يشهق بمجرّد معرفته بإصابة أحد المقدّمين. قد تسهل معرفته للإصابة في مجتمع صغير يعرف بعضه البعض مثل مجتمعنا، ولكن لا ينبغي استخدام طبيعة المجتمع كآلية حرب على 18 ألف مصاب بالسكلر منهم من المؤهّلين الكثير، وقد يتفوّقون على غيرهم ولكن عنصر التمييز واسم المرض يحول دون حياتهم وأحلامهم وطموحاتهم. والمشكلة، هي أنه ليس في وسعنا إصابتهم بالمرض ذاته حتى يتجاوزون تمييزهم ويتفهّمون، ولكن التفهّم ليس بحاجة للوقوع في المشكلة ذاتها، هو محتاج فقط لأن نتعرّى من قناعاتنا السابقة، التقليدية في أغلب الأحيان، ونحاول اعتناق فكر جديد، وذلك لا يحدث صُدفة ونحن في قوقعتنا، بل يحدث عندما نخرج من الصدَفة التي عشنا تحت ظلّها، ونجرّب الحياة بدونها، وقتها فقط سنعرف ما معنى أن نعيش داخل صدَفة أخرى غير التي ولدنا فيها، لو قرّرنا فقط أن لا نموت بداخلها. نور عبدالله الشيخ رحمكِ الله أستاذتي القديرة الحزم والحكمة في اتخاذ القرار والاحترام والطيبة والتواضع والبذل وحب الخير والسعي إليه كل هذه الصفات الجميلة تمثلت في شخص الأستاذة القديرة الراحلة (بهية الغانم) رحمها الله تعالى. رحلت نعم... فكل نفس ذائقة الموت ولكن بقت آثارها الطيبة وذكراها العطرة في نفسي، فقد كانت لي بمثابة الأم والأخت الكبرى التي تشاركني أفراحي وأحزاني، لم تقتصر هذه العلاقة الطيبة على فترة عملي معها قرابة 11 عاماً في بادئ مشواري العملي، وإنما ازدادت حتى بعد انتقالي إلى إدارة ثانية بوزارة التربية والتعليم، حيث احتوتني بعنايتها وكرمها ومعزتها لذلك كانت لها مكانة قديرة لدى عائلتي وأطفالي الذين شملتهم أيضاً بحبها وحنانها. وكم آلمني خبر وفاتها والذي استقبلته بنفس مطمئنة راضية بقضاء الله تعالى وسعيدة لأنها لاقت ربها في أفضل أيام الدنيا عنده وهي العشر من ذي الحجة، ولم أجد نفسي إلا وأنا عندها في المغسلة التي لم أتمالك القدرة للذهاب إليها عند فقدان فلذة كبدي الغالية رحمهم الله جميعاً. ووقفت هناك أهديها آيات من القرآن ودعاء يخفق من القلب يرجو لها المغفرة والرحمة والفوز بجنات النعيم. لساني عاجز عن ذكر محاسنها فهي عملت بالخير كثيراً، وتركت بصمات لا تنسى، ومصابيح مضيئة في الحقل التربوي والذي تجلى في الحشود التي ملأت منزلها طوال أيام عزائها، وفي محنة مرضها عرفناها بالصبر وتحمل الآلام بنفسٍ راضيةٍ ومؤمنةٍ ولسانٍ شاكرٍ حامدٍ لله. فسلام عليك أستاذتي القديرة من الله ورحمته، وأسأل الله العظيم أن يجمعني وإياكِ في أعالي جناته تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله. لطيفة عيد العيد