في هذا الزمن المزدحم أدركتُ فعلا أن الفراغ إحدى نعمتين مغبون فيهما كثير من الناس (بجانب الصحة كما جاء في الحديث الصحيح).. لهذا السبب تعلمت إطفاء أضواء الغرفة وإغلاق الجوال والتلفزيون كلما سنحت لي الفرصة لفعل ذلك.. اكتشفت جمال الاستلقاء على الأريكة وفعل لاشيء، وأجعل الأفكار تتداعى برأسي "براحتها".. فحين يخيم الصمت ويغرق المكان بالظلام أكتشف عالماً داخلياً شديد الروعة والصفاء.. حين تجرب ذلك ستجد ان إمكاناتك الذهنية تتعاضد - بدون إرادتك - لحل ابرز معضلة تشغلك. ستلاحظ ان مخك بدأ يعمل وحده وانه يتداعى بطريقة حرة سلسة. ستدرك حينها انه لم يعمل بهذا النشاط والصفاء منذ زمن طويل وانك كنت "تؤجره" للجوال والتلفزيون والثرثرة الكذابة.. .. لدى الصينيين فلسفة جميلة تقوم على تقديس الفراغ والخمول والتأمل. وهم يعتقدون ان الحكمة والمعرفة نتيجة طبيعية للتأمل وعمل لاشيء.. يقول الفيلسوف الصيني لين يوتانغ (1895-1970): "في الصين الإبداع والخمول وجهان لعملة واحدة... اكثر الرجال حكمة اكثرهم استغراقاً في التأمل بدون حركة او عمل... فالمعادلة ببساطة هي أن الحكماء ليسوا مشغولين والمشغولون ليسوا حكماء". وهذا القول لايشجع على الخمول او ينصح بالكسل؛ بل ينبهنا إلى أن التأمل طريق الحكمة، والوحدة صنو العبقرية، والاسترخاء مهد الابداع.. فسير الأنبياء والعباقرة تثبت ان لكل منهم "خلوة" يتفرغ فيها للتفكير والتأمل وفهم ما حوله.. وهي من "شروط العلم الستة" التي سردها الإمام الشافعي في بيت شعر جميل: ذكاء وحرص، واجتهاد، وبُلغة وصحبة أستاذ وطول زمان. وهو بهذا البيت يؤكد أن التفرغ شرط للعلم، وأن البُلغة (أو الاكتفاء المادي دون الحاجة للعمل) شرط آخر لا يقل أهمية للتفرغ لطلب العلم.. واليوم يؤكد علماء النفس أن معظم العباقرة كانوا مصابين بنوع خفيف من "التوحد" المرضي والانطواء على الذات (وهو مايبدو لي أمرا منطقيا كونك لا تستطيع الابداع وأنت تشاهد التلفزيون أو تلعب البلوت أو ترد على رسائل الواتساب).. أفضل ما تفعله في أوقات الفراغ هو الا تفعل شيئاً على الإطلاق وتدع دماغك ينطلق بحرية كغزال شارد.. يمكنك استغلال فراغك لطلب السكينة والتأمل ومراجعة الذات. فزحمة الحياة هذه الايام تمنعنا من مراجعة تصرفاتنا واستعمال الحد الأدنى من أدمغتنا؛ ففي كل يوم ننفذ أعمالا مكررة ونتبع قواعد وضعها أشخاص غيرنا؛ لا مجال للمبادرات الشخصية ولا وقت لمراجعة الذات وتقييم الانجاز.. اما حين نعود للمنزل (حيث يفترض السكينة والهدوء) فإننا نسلم عقولنا طواعية للفضائيات تلعب بها وتملأها بالسطحية حتى يغلبنا النعاس وننام! أول درس تعلمته بخصوص عمل (لاشيء) كان قبل عشرين عاما حين كنت أعمل في مدرسة ثانوية للبنين.. فبعد انتهاء الإجازة الصيفية تجمع المعلمون في غرفة الوكيل وبدأوا بتكرار الاسطوانة المعهودة: أين سافروا وكم صرفوا وأين قضوا إجازاتهم، ومن أفضل هذه الأيام أوروبا أم أميركا أم شرق آسيا.. وفي انتهاء جلسة طويلة من التبجح المكشوف استيقظ فراش المدرسة البسيط من غفوته وقال جملة أسكتت الجميع: "يارب لا تشغلنا.. ياجماعة الراحة نصف القوت"!