استمع فيصل جلول بعد حزب سيريزا اليونانية فوجئ العالم الأحد الماضي ب بوديموس وسيدادانوس في إسبانيا. الأول هو اليسار البديل والثاني يمثل الوسط الليبرالي بعيداً عن حزب الشعب المحافظ الذي يتولى الحكم في مدريد. لكن المفاجأة ليست مطلقة، ذلك أن الحزبين المذكورين هما من أثر حركة الساخطون التي انفجرت في العام 2011 بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية في البلاد وغرق الحزبين التقليديين الشعبي، المحافظ والاشتراكي، العمالي في قضايا الفساد. تلك القضايا التي طالت الجميع في حينه، فقد وصلت البطالة إلى 25 في المئة وهي من بين الأعلى في أوروبا، وتوزعت الفضائح المالية على الاشتراكيين والنقابات والشركات الكبرى وأرباب العمل والبنوك، حتى وصلت إلى شقيقة الملك فيليب السادس، وابنة خوان كارلوس. في مواجهة هذه الظاهرة التي لم يفلح اليمين واليسار في إيجاد حل لها، ولدت حركة "الساخطون" فيما يشبه حركة طلعت ريحتكم في لبنان وطالبت بإصلاحات جذرية في الدولة والحكومة وجعلت الشفافية قيمة جديرة بالاحترام. من الساخطين ولدت جماعة بوديموس اليسارسة أو اليسار البديل، كما يشير اسمها، وولدت على هامش اليمين المحافظ حركة سيدادانوس ذات النفس الليبرالي الوسطي، وقد حققت الأولى انتصاراً مهماً في أول مشاركة انتخابية، إذ بلغت نسبة أصواتها 20 في المئة وحصلت الثانية على 14 في المئة. في حين فاز الحزب المحافظ الحاكم ب 123 نائباً وخسر بذلك أغلبيته البرلمانية في حين تراجع حزب العمال الاشتراكي إلى الوراء بحصوله على تسعين نائباً. وفي الحالتين من الصعب على أي منهما أن يحكم من دون ائتلاف هو نفسه متعذر بسبب تصريحات الحملة الانتخابية التي تبين من خلالها أن الأحزاب الجديدة لا تريد الحكم مع الحزبين التقليديين. تقدم اليسار البديل والوسط الليبرالي أدى إلى كسر الاحتكار الحزبي التاريخي بين ثنائي المحافظين واليساريين الذي ورث العمل السياسي في البلاد من خلاصات الحرب الأهلية الإسبانية التي اندلعت بين الأعوام 1936- 1939، بين اليمين الملكي المحافظ والجمهوريين، وانتهت بانتصار الديكتاتور فرانكو الذي تخلى عن الحكم قبل أربعين عاماً لمصلحة الملك خوان كارلوس الذي فتح بدوره أبواب الديمقراطية وأرسى الحياة السياسية على ثنائية حزبية على الطريقة الأمريكية، الأمر الذي استمر أربعة عقود انتهت أمس الاول بتذرر الحياة السياسية وتعدد التمثيل الحزبي. ولعل من حسن حظ الإسبان أن التشظي يمكن أن يحتوي النزعة الانفصالية الكاتالونية، فهذا الإقليم نظم انتخابات لهذا الغرض جوبهت برفض من المجلس الدستوري وهو يحضن حركة سيدادانوس التي لا تريد الانفصال عن إسبانيا وإنما الحكم اللامركزي أو الفيدرالي، وهو الخيار نفسه لدى بوديموس التي وعدت الكاتالونيين، لو حكمت، بتنظيم استفتاء حول حق تقرير المصير في كاتالونيا يؤدي إلى دولة فيدرالية. ما ليس معروفاً بعد هو كيفية حل مشكلة الأغلبية في البرلمان وبالتالي تشكيل حكومة تتمتع بشرعية نيابية كافية، ذلك أن الحزب المحافظ الحاكم لا يتمتع بالأغلبية البرلمانية المطلقة، وليس قادراً على الائتلاف مع حزب العمال الاشتراكي المعارض، الأمر الذي يحتم استعانته بالوسط الليبرالي الذي لا يرفض الائتلاف، لكن المسألة الكاتالونية تفصل بينهما وتجعل ائتلافهما متعذراً، في حين يحول الاختلاف الأيديولوجي دون اللقاء في حكومة واحدة، فضلاً عن تباعد البرامج. يبقى احتمال الحكم بواسطة ائتلاف يساري وهو متاح بسبب حصول اليسار على الأغلبية البرلمانية المطلقة، لكن شرعية بوديموس مبنية على البديل عن التيار الاشتراكي الكلاسيكي المتورط في قضايا فساد والذي أنهكته سنوات السلطة الأربعين في الحكم أو المعارضة، إلا إذا اقتنع الاشتراكيون بأن العمل وفق برنامج يساري شاب من شأنه أن يزودهم بكميات من الأوكسجين الذي يحتاجونه بشدة هذه الأيام لالتقاط أنفاسهم بعد فضائح الفساد والسياسات الفاشلة عموماً. في هذه الأوقات، من الصعب ترجيح وجهة على أخرى في هذه القضية وهذا يعني الانخراط في ماراثون من المشاورات من دون أفق زمني محدد، فالدستور لا يلزم رئيس الوزراء المكلف بتاريخ لنهاية المشاورات، ما يعني أن التفاوض سيكون طويلاً، وأن خاتمته الجيدة تكون ائتلافية، وإلا فستكون الخاتمة السيئة عبر انتخابات مبكرة على الطريقة التركية، وفي هذه الحال من الصعب أن نشهد تكرار السيناريو التركي. كائناً ما كان مصير الحكومة المقبلة، فإن إسبانيا تجرأت على كسر الثنائية الحزبية التي وفرت الطمأنينة والاستقرار، وطوت صفحة الديكتاتورية، بيد أنها وصلت إلى نهاية مشوارها الأحد الماضي، هذه النهاية التي عبر عنها أحد المتظاهرين بتوجيه لكمة قاسية إلى رئيس الوزراء روخوي، كأنه يريد القول لقد حان أوان الترجل. وإذا كان الترجل مطلوباً، فإن الفوضى والأزمات الحكومية الممتدة على الطريقة الإيطالية لا تنطق برغبة الناخبين الشبان الباحثين عن التغيير وسط استقرار حكومي. لذا سيكون الاختبار الأول للفائزين الجدد حول مدى قدرة بوديموس وسيدادانوس على المناورة وبالتالي التنازل للمشاركة في الحكم ووضع أفكارهم موضوع التطبيق في مؤسسات الدولة الديمقراطية. ولعل إشراك الجدد في الحكم يعيد دورة الحياة السياسية الإسبانية أربعة عقود إلى الوراء، حيث كان تقليديو اليوم ثوريو الأمس، وقد عرفوا أهمية التمييز بين براغماتية السياسة ورمزية القيم. الناظر إلى حركة الطبقة السياسية الإسبانية هذه الأيام يخشى خطراً واحداً هو توسيع التمزق بين الفائزين، وبينهم وبين التقليديين، وبالتالي تفتت المشهد السياسي الإسباني، وتحول هذه التفتت إلى سلاح فتاك ينعقد على الأزمة الاقتصادية والفساد، ويطيح الاستقرار، مع ما يعنيه ذلك من خراب لا يمكن لأحد التنبؤ مسبقاً بحجم نتائجه الكارثية. أما عن برنامج الفائزين في الحكم فهو واضح بالنسبة لبوديموس التي تريد تدعيم القطاع العام والتوزيع العادل للثروة، وتطهير الدولة من الفساد واستئصال الفقر، فضلاً عن حل الأزمة الكاتالونية بواسطة الاستفتاء العام. في حين يريد الليبراليون الجمع بين الليبرالية في الاقتصاد والاشتراكية في الاجتماع. fjalloul3@yahoo.fr